المرأة الساردة / الجزء الأول Print

.

ولأن الشواعر العربيات اللواتي رسّخن حضورهن الأدبي عبر الشعر والقصيد النايف، كنَّ قليلات إن لم يكن نادرات، ولكن الأديبات العربيات الساردات اليوم، صاحبات المكانة والحضور، صرن بالعشرات، حتى ليكاد كل بلد عربي يعلن بالصوت العالي أن لديه كاتبات مازهن الإبداع واصطفاهن حتى صار للسرد العربي، في الرواية على وجه التحديد، مملكة من الحضور السردي ذي المرجعية الأنثوية، وهذا ما دلل على المواهب الضافيات التي تمتعت بها كاتبات السرد العربي، وفي معظم البلدان العربية.

صحيح أن البقع الجغرافية للكتابة السردية كانت حاضرة بقوة في مصر وبلاد الشام والعراق، وعبر سنوات طوال وبعيدات في القدم، لكن الصحيح أيضاً هو أن حضور الكاتبة العربية الساردة اليوم يكاد يشمل بلدان العرب جميعاً، وهذا يعود إلى أن الدروب والنوافذ التي أغلقت بوجه المرأة، وباليد الذكورية المالحة، فتحت منذ عقود، وباليد الذكورية المالحة أيضاً، وقد أثبتت المرأة الكاتبة، وعلى الرغم من أن ذيول الآثار والعقابيل الجارحة التي حافت بها أوقاتا ًطويلة ما زالت حاضرة وذات تأثير، لكن البادي هو أن التعليم، والثقافة، والحرية، وجسارة المرأة على اقتحام ما كان أرضاً حراماً عليها، وأرضاً خصبة للرجل وحده، وتوق المرأة إلى التطاول والحضور والإبداع.. كلّه أسهم في أن تكتب ما سكتت عنه المرأة العربية قسراً طوال قرون منصرمات!

وأعتقد أن المرأة العربية الساردة اليوم، وعبر ما نراه ونعايشه من كتابات روائية ذات رواء ومكنوزية ثرية وبهاء وجمال مفتون بالنسيج الأنثوي، أفصحت عن أسرار داخلية لا تمتلكها إلا الذات الأنثوية فكشفت عنها لكي تبدو بهرتها، ومنها ما شكل مجازفة أو قل مغامرةً في فتح الدروب والنوافذ المغلقة لمعرفة الإجابة عن سؤال ممض موجع فحواه: لماذا أغلقت تلك الدروب والنوافذ بوجه المرأة التي نذرت نفسها، ووقتها، وموهبتها، وتجليات عقلها، وما تتزين به روحها.. من أجل الكتابة الممسوسة بوجع الروح الأنثويةوالظلم الذي عانت منه من جهة ونورانيتها التي حبتها بها طبيعة المرأة من دفء وحنان وعاطفة! ولذلك كانت الكتابات الساردة التي كشفت عنها المرأة، هي الكتابات التي قدّمت، في بدايات الحضور للمدونة السردية الأنثوية، ما هو موجع ومحير ومؤذٍ ومحزن.. والذي كانت مرجعيته مرجعية ذكورية، فالوجع الذي عانت منه المرأة كان سببه في معظمه، الرجل الذي ما أرادت أنفتُهُ، ولا كبرياءُ رجولته، ولا حساسيتُهُ أن تعترف به بوصفه منتجاً ذكورياً أو أن الذات الذكورية أقامت عليه الحراسة المشددة ليبقى ويدوم، ولم يكن من سبب جوهري لحيرة المرأة الكاتبة وتوهانها في الدروب المتقاطعة، سوى نوسان نظرة الرجل الكاتب إلى نصوصها فهي المادحة إلى آخر سقوف السماء، والقادحة إلى آخر قيعانأراضين المقابر، وكذلك الإحباط الذي عرفته المرأة بأشكال مختلفة وألوان متغيرة، كان سببه الرجل الأكثر قرباً من المرأة الكاتبة، ولا سيما الرجل الذي ظنّ أن كتابة المرأة تعني مشاركتها للآخرين في ساحات عدة منها ساحات الرأي، والقول، والحضور، وهذا عنى له توسيعاً لدائرة حراك المرأة، وهذا خط أحمر، والأمر عينه نقوله عن الأذى الأذى الذي لحق بالأديبة العربية، وهو بدوه الأعم ناتج عن اختلاف وجهات النظر حول المدون السردي الذي قدمته المرأة، الأمر الذي جعل المرأة تعيش في قلق دائم لأنها لم تعرف إلى أين تنظر، وهي تقيّم كتابتها، أتنظر إلى مرآة الآخرين التي تبدو صورتها فيها بيضاء مرة، وسوداء مرة، ورمادية مرة، وعن مدون سردي واحد، أم تنظر إلى مرآتها الذاتية في كل مرة، فترى بحواسها وعقلها ما قدمت لكي تبقيه أو تبدده! والمحزن الذي يلازم المدونة السردية التي تكتبها المرأة العربية، هو خليط مشوش ناتج عن الآراء الأخرى، وكلها ذات أهمية عند المرأة الكاتبة، فهي، وفي بداية انطلاقتها السردية، لم تدر، وقد وعت، ما وراء هذه الآراء، أتكتب ما هو جواني، وكاشف عن أسرار عالم الأنوثة، أم تكتب عن ما يجول في عالمها الخارجي من هموم ومشكلات وقضايا! وإن كتبت عن العواطف الداخلية، وأبدت الحنين والرهافة، والحساسية، واللطافة، أتكون مثل طائر يطير في العتمة، يهمهم ويتمتم ويجهر برأي واحدة، وإن كتبت عن القضايا الاجتماعية والسياسية والدينية، أتكون صاحبة انقلاب معرفي على الرجل! وهل يقبل الرجل شراكتها في هذا الأمر؟!

بلى، تقدمت كتابات المرأة السردية اليوم، وتعددت صيغ الغرف لتشكيل مدونها السردي، بدءاً من أعماق الذات الباحثة عن المكانة والحضور في وسط عالم ذكوري صبغته بالتوحش العاداتُ والتقاليدُ، وانتهاءً بالحديث عن القيم، والقضايا، والمشكلات، والأحلام التي جازت ما هو شخصي وجواني إلى ما هو عام وخارجي لإعادة صوغ وجهة نظر ترى الحياة بضفتيها [الذكورة والأنوثة] من جهة، وما هو جواني /سراني، وخارجي كشيف من جهة ثانية!

ها أنذا، أمدّ هذه العتبة، ولا أدري إن كانت قد طالت أم لا، لأتحدث عن رواية ماتعة، قرأتها بشغف، وأنا أميلتأرجحاً مع ميلها مرة نحو العاطفة التي ما زالت النفس البشرية، وأعني النفسين الأنثوية والذكورية معاً، لم تكشف عنها بعد، ليقول المرء الآن عرفت ما تكنّه أو تتحرز عليها هذه النفس أو ما تبديه أو تكشفه تلك النفس، ومرة ثانية أميل مع العقل الجوّاب الذي يطوف بما أنتجه العقل العربي من أفكار، وما صاغه من أحلام، وما واجهه من عقبات أطاحت بكل جميل قيل عنه!

هذه الرواية هي /المربع الأسود/ لأديبة عرفت بشعرها الذي جعلته ترسيمات دالة على موهبتها الفذة في دواوين عدة طبعت مرات ومرات باللغة العربية، وفي غير بلد عربي، وترجمت قصائدها إلى لغات عالمية عدة، هذه الكاتبة هي بلقيس حميد حسن، التي هي نبت بري، تربى وعاش على ضفاف الأنهار، فوعى الجمال في صورها البكر، وهي اصطفاءٌ من بيت دارت الكتب والأفكار والحوارات فيه مثلما تدور الأنسام في رحابة السماء، أبوها شاعر كبير، صوته كان مدوياً بقضايا الأمة وأحلام أهلها، عاش الشعر حياة، وعاش الحياة شعراً، وأخوها شاعر، لولا شغب الحياة، لكان دارة للشعر المنقّى من زُلال الكلام المضيء، وثقافتها ثقافتان، أولاهما ثقافة البيت الذي جالت الكتب فيه وحطت جولان الطيور وحطيطها على حواف الينابيع والغدران، وثانيهما ثقافة المدارس والمكتبات وما باح به الأصدقاء، وما نادت به العقول والأحزاب والمدارس الفلسفية، ومدونات الأساطير. أما الأوفى حضوراً في هذه الثقافة فهو ما تبديه سردية بلقيس حميد حسن من علو ورجاحة لجماليات الثقافة الشعبية الآتية من مكنونات الحكايات الشعبية، والأغاني، والعادات والتقاليد التي يرويها نهران عظيمان هما دجلة والفرات، وتقصّها جغرافية أثيلة بأسرارها هي جغرافية الأهوار والحويجات وأجمات القصب التي لا تبقي على سرّ من أسرار عشاقها الذين دلفوا إليها فلاذوا بهالتكون حرزهم الأبدي، وعشهم الأليف بعيداً عن تلصصالعيون اليواقظ، ولتحدث بها الأكواخ التي أقامتها الأيديالحاذقة من سعف النخيل، ولتسبطن ما قرَّ في المقابر التي حملت إليها الدروب النحيلة أحزان الدنيا كلها..

عبر هاتين الثقافتين، الثقافة العالمة، ثقافة المدارس والجامعات والمكتبات، والقراءات أولاً، والثقافة الشعبية المحتشدة بالحكايات، والأخبار عن عالمي الناس والجنثانياً، وما قرّ عليه الذهن من عادات وتقاليد صارت راسخة ومتناقلة وأزيد، تقدم بلقيس حميد حسن روايتها الجديدة (المربع الأسود) بوصفها مدونة سردية عن جوانب منالسيرة الذاتية وما عبرت عنه النفس من طعوم وما باحت به من أحلام، ومسرودية عن جوانب من السيرة الاجتماعية /السياسية التي عرفتها بقاع جغرافية متعددة في بلادنا العربية، وما أوجعها من ارتطامات قاسية موحشة كسّرت الأحلام وشظّتها!

19-7-2019