عن هروب الموناليزا. ألم البوح عبر التأريخ..علي شايع Print

ألم البوح عبر التاريخ


31/1/2015 12:00 صباحا

علي شايع

وأنا انشغلُ بالتعريف الأولي، كمقدمة، للكتابة، عن الشاعرة والروائية بلقيس حميد حسن، تذكرت، وبكلّ الأسى، من عاشوا ألم البوح عبر التاريخ؛ وما أكثرهم، ينفقون حياتَهم لأجل الآخر، حتى اليوم، ولإيصال صوت من لم يذكرهم ذاكر، وبكل تأكيد، في ذاكرة كل قارئ كريم، عشرات الشعراء، والكتّاب، ممن يكنّ لهم أسمى العرفان، لأنهم شكلوا لديه رؤية أخرى، ستبقى أزلية. وبالفعل،هي كذلك،ومثلما يقول المثل الهولندي:" Wie schrijft die blijft"، من يكتب يبقى، أو البقاء للكاتب، ولعلّ هذا المثل لا يعنى كثيراً بالكتابات العابرة، فكم من الوراقين والنسّاخ في زمن المتنبي مثلاً، ولكن البقاء كان للإبداع العابر عبر كل زمان.
والى جانب هذا المُعطى لابد من السؤال أيضاً: كم من غني ومتنعم شغل أيام الناس بسطوته، لكن الأزلية ظلّت لفقراء الكتّاب، ولشعراء عاشوا العدم. من منا سيتذكّر وزير المعارف، على سبيل المثال، أو رجلاً غنياً من أهالي البصرة، عاصر السياب!..وكم سمعت مثل هذا الوصف عن مبدعين ما صادفوا في حياتهم لحظة عرفان، إلا ما رحم ربي.
الاحتفاء بالشاعرة والروائية الآن، سيكون احتفاء ضمنياً بكل من مرّ في ذاكرتنا من المبدعين، ومن عانوا ضنك العيش.. أولئك الأغنياء حقاً بالروح وبالمنجز؛ الأحرار من قيد المطامع.

الفقر أكثر تحرراً
الزهد فلسفة يعرفها المبدع أكثر من غيره.. وهو شيء آخر مختلف عن الحرمان. وحده الزاهد يدرك لوعة المحرومين. بهذا الهاجس الحي أدعو الجميع لتصفح منجز هذه المبدعة. وبهاجس أخر، أتمنى أن ينتبه إليه القارئ الحصيف، وربما يختصره قول شاعر:
فلو قيل ما أنتَ؟ لقلت معذبٌ.. بنار مواجيدٍ يُضرمُها العتبُ
وكأنه لسان حال الكاتبة وهي تقول في لقاء صحفي: "كنت وأنا أكتب روايتي "هروب الموناليزا.. بوح قيثارة" طوال سنوات، أتردد كثيراً وأحذف جملاً وتفاصيل أخشى وقعها على الناس، وعدم تحملهم صراحتي".. وهي هنا تصف نار المواجيد في ذلك العتب الجمعي السائد، الذي أضاف عذاباً جديداً لما عانته وتكبدته وهي تستحضر أوجاع من مرّت على سيرتِهم في بوحِها الإنساني الهادر. وبالطبع، فإن تحمّل المتلقي، ومدى تقبّله لأي طرح جديد، لن يكون إلا باستشرافه لحالة من الوعي الجديد هو الآخر، وبمعنى نقدي مقارب، يمكن استحضار حسرة الشاعر آرثر رامبو وهو يقول: كيف يستطيع ناقد ما الكتابة عن المستجد، وهو يعيش في قديم وعي ينظر من خلال مفرداته إلى ذلك المنتج كشيء غريب لا يجد مطابقا له في ما رَسِخَ لديه من تنظير، أو شروط للتقبّل.
بالتأكيد ستصبح المسألة أعقد حين يواجه المنتج الثقافي خارج النقد الأكاديمي، وبوعي اجتماعي متراجع، يستبطن كلّ أشكال الانزواء والتطرّف. وبحدود هكذا واقع، سينحسرُ عديد المشجعين والداعمين لفكرة من يكتب، وهو ما اعترفت به الكاتبة في إحدى احتفاليات الاحتفاء بروايتها ببغداد، حيث أكدت إن أكثر من عرضتْ عليهم (مخطوطتها) لم تجد لديهم تشجيعا كافياً، لكنها تقرّ بعرفان وشكر لكثير من نساء تعاطفن مع منجزها بوعي إنساني عميق. وبالتأكيد ليست الرواية موجهة للنساء، ولكنها بوحٌ عن آلام ومعاناة المرأة، وهذا البوحُ والكشف يبدو حاضراً من العنوان  وحتى الجملة الأخيرة، ومن يدقق بالعنوان سيكتشف مجموعة صلات وروابط شفيفة، فللوهلة الأولى وأنا أرى مفردة "البوح،" أُدرك أني أمام إشراق حقيقي، ف (بوح) هو أحد أسماء الشمس، وهو مقابل الظلام، الذي تريد أن تطرده الكاتبة عن المتواري في النسيان. أو الإشراق به لمواجهة عتمة الظلاميين. أيضا أن تبوح بالشيء فربما تجعله مستباحاً لما تضيفه الظنون والضغائن.
ومن دلالات العنوان الأخرى أجد صلة بين "بوح القيثارة"، ومعنى أن يكون الألم مُدركاً إنسانياً، فالألم كالموسيقى؛ لغة خاصة يعرف مفرداتها كلّ إنسان، و يمكن أن يعثر فيها على نغمة يتفاعل معها بالضرورة.

رواية للتكرار
كتابة بلقيس حميد حسن ليست للقراءة العابرة ولمرة واحدة، وأنا أقرأ الرواية للمرة الثانية، وجدت أن الكاتبة لم يكن يعنيها كثيراً شكل التفاعل القادم مع الكتابة، وتبدو متحررة من سطوة الكتمان، ولم تأبه لعتب الرافضين لما جاء في المخطوطة، بل يبدو جلياً إن تلك الآراء رفدتها بحماس كبير للاندفاع إلى أقصى مكاشفة ممكنة، وهي هنا لا تقصد الرهان على جدل، بما ستورده من اختلاف، فلعلّ من يتوهمه بنوايا الاختلاف اللاهي، لا البوح الرديف لتلك الصرخة السيابية:"ولكن أيوب إن صاح صاح."
من يطالع  رواية "هروب الموناليزا.. بوح قيثارة" بروية وتمثّل، سيجد إنها مثقلة بمجموعة كبيرة من الروايات الداخلية، وهذا ليس مأخذا فنياً على النص، ولكني أعتقد إن الكاتبة كان من الممكن أن تنتج مجموعة روايات مستمدة من سيرة وحكايات أشخاص تشوقنا لمعرفة مصائرهم، وأين انتهت بهم الوقائع؟، لكن مسيرة البطلة باتجاه واحد في السفر، وتقطّع السبل بها، يبرّر تلك الحالة الفريدة، حتى كأن الكاتبة تريد من كل قارئ أن يحل محل الراوي ليدرك بوعيه وخياله، ومن خلال ما تراكم من سرد وحكايات، فيكمل بمفرده رواية كل بطل فيها، مستحضراً رنين أوجاع الضحايا عبر القيثارة ذاتها.
لن يكون عادلاً من يعامل الرواية في بعدها السياسي، أو كما لو أنها كتابا تأريخيا، أو على أساس ضغطها في ثيمة واحدة، فالقراءة المنصفة لهذا العمل، تجعل من كل صفحة فيها موضوعاً؛ فهي درس في الفلسفة، والحكمة، والقانون.  لا يظهر عبر السرد الطويل إن ما يمر فيها كان مزجوجا عنوة، أو وضع بإكراه، أو بقصدية استعراضية أو تعليمية، فالتسلسل النفسي للنص يوحي بانسيابية السهل الممتنع، المبني بإحكام فني رفيع، وبصنعة العارف.
رواية "هروب الموناليزا.. بوح قيثارة" لم تقرأ بعد، وهي مكتوبة في سبق للزمن، قراء الزمن القادم، وحدهم سيثمنون من طالعها واحتفى بها.
وما دامت الرواية تتحدث بلهفة القيثارة وموسيقاها، سأهمس بينكم، تذكروا: إن مغنية الحي لا تًطرب. أو بطرفة موسيقية أخرى: تذكروا أن الموسيقي العربي القديم (زرياب) كان متضايقاً من جيران طالما عنّفوه بالقول: سئمنا أنينك وألمك يا زرياب، فحتى وأنت تعلم تلاميذك الموسيقى، لا تقــول لهــم، تمـرينا للرئة غـير (الآه).

جريدة الصباح العراقية. الصفحة الثقافية