هروب موناليزا -بوح قيثارة- للشاعرة بلقيس حميد حسن كاظم حبيب Print
قراءة في كتاب هروب موناليزا -بوح قيثارة- للشاعرة بلقيس حميد حسن

كاظم حبيب


الكتاب: هروب موناليزا، بوح قيثارة
الكاتبة: بلقيس حميد حسن
دار النشر: دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر والتوزيع
مكان النشر: بغداد
تاريخ النشر: طبعة أولى، 2013
عدد الصفحات: 275 صفحة

صدر حديثاً للشاعرة المبدعة وعاشقة الحب والحياة بلقيس حميد حسن كتابها الجديد أو كما ثبت على الغلاف الأول "سيرة ذاتية للكاتبة ولنساء عرفتهن في طريق الحياة", وهو يجسد مجرى مسيرتها الحياتية والنضالية ومن عرفتهن في طريق النضال الطويل. فماذا حمل إلينا هذا الكتاب الجديد وهي الشاعرة المبدعة التي أتحفتنا بجميل شعرها، بباقات من شعرها الفواح بعطر الحياة وسحر الحب والجمال ورقة الكلمات.
حين كنت في هولندا للمشاركة في احتفال تكريم الصديق العزيز والكاتب البارز الأستاذ جاسم المطير, أهدتني الشاعرة والصديقة العزيزة لي ولأم سامر كتابها الجديد، وكانت هدية جميلة فشكراً لها ولهديتها.
تتميز بلقيس بتعدد المواهب والكفاءات، فهي شاعرة موهوبة ومبدعة ورقيقة، تمتلك صوتا غنائياً منعشا ومشنفاً للأسماع ورقصها ساحر وأناقتها وذوقها في اختيار ملابسها يتسم بالبداعة ويعبر عن حس مرهف للألوان وتناسقها أو علاقاتها المتبادلة، ولها طباع تغري الإنسان بحبها, إنها باختصار امرأة, نفاذة لا تنسى وجميلة في آن.
سمعتها تشدو شعراً لها بصوت غريد سحرتني وسحرت من استمع إليها من النساء والرجال الذين طلبوا المزيد فزادت باستحياء ولكن مقرونة بالثقة بالنفس، إذ كانت تصدح بأبيات من شعرها الرشيق والرقيق، الحزين أحياناً والسعيد الضاحك المقهقه أحياناً أخرى، العاشق حتى الثمالة أو المنكوب بعشقه، الثائر كبحر هائج، والهادئ كخرير المياه في نهر صغير، إنها النسمات الصباحية المنعشة والمحفزة للحياة.
قرأت لها مقالات فتعلمت منها أسلوبها وعمق مضامينها ومفرداتها وسعة افقها ورقة أحاسيسها وجميل قولها.
تحادثنا فكانت غزيرة بمعارفها العامة وحافظة كبيرة للشعر وذات اطلاع واسع وقدرة غنية على تبادل الرأي والحوار بتواضع جم، تملك روح النكتة وقادرة على الضحك على نكتة أو موقف يخصها.
نشأت في بيت شعر عاشق وحافظ للشعر. الأب، الذي أصبح نموذجاً للطفلة والصبية والمرأة الناضجة بلقيس، كان يدفع بها وبأخيها إلى حب وحفظ الشعر العربي والتمتع به وفهم معانيه وفك رموزه. لقد نقل حبه للشعر وموهبته في حفظه لابنته وابنه، رغم اختلاف المشارب، إلا حفظ الشعر ونظمه، وأن اختلفا في الفكر والاتجاه والمضمون والمنحى العام.
قرأت لها أخيراً سيرتها الذاتية التي أسمتها هروب موناليزا "بوح قيثارة"، إنه عنوان جميل لقصيدة أو أغنية أو قصة أو سيرة ذاتية تسجيلية وتحليلية ذكية، وكانت الأخيرة. إنها بوح ونوح ومسرة قيثارة في آن، هي لوان قزحية متناسقة، إنها أغصان جميلة معطاءة مطعمة بشجرة غريبة، ذات ثمار كثيرة، على وفق تعبير الشاعر صلا نيازي الذي عنون سيرته الذاتية بكتاب "غصن مطعم بشجرة غريبة"، إنها شجرة الناصرية ذاتها، المدينة التي ولدت فيها وولد فيها قبلها الشاعر المبدع صلاح نيازي. إنها مزيج من مشاهد كثيرة يصلح بعضها الكثير أن يمثل على المسرح بعد أن وقعت أحداثه في الواقع المعاش ولم تنقطع عن مسرح الحياة الفعلي. إنها رواية تسجيلية لسيرة ذاتية وسيرة مطعمة بسير أخرى يشتبه القارئ لأو القارئة لها، أو قل إنها أرادت لهما ذلك، أن تتمشكل عليهما اللوحة وكأنها تقول لهما إنها أنا بلحمي ودمي وأعصابي، عشقي وجنوني في الحب والهوى، وإنها هي تلك المرأة التي تتصورونها، أو إنها هن كلهن فلا فرق في ذلك.
قبل أن أبدأ بمطالعتها قال لي الصديق الأستاذ فارس الماشطة إنها روايتها الأولى، وهي بديعة بانتقالاتها الرشيقة من وتر إلى آخر, من موقف إلى آخر، من الطفولة البريئة إلى الصبية اليافعة, إلى السياسية الثائرة، إلى النساء الرفيقات المعتقلات المعرضات للتعذيب الهمجي في سجون النظام، إلى شرطة الحدود وقرارات منع الناس من السفر المخالفة لأبسط حقوق الإنسان، وطيبة الشرطي أو رجل الأمن الذي لم يعتقلها وتركها تعود إلى بغداد، ثم الهروب بجواز مزور عبر الحدود العراقية والغربة، إلى الحديث عن الحب والحياة المنعشة، إلى سلخ سلوك الفحولية المزيفة لدى الذكور التي تستحق الجلد، إلى الرجل الذي أهمل زوجته وراح يلوط بالصغار من الأولاد وكيف يقنعهم بإدخال سهل غير مؤذٍ، إلى الرجل الذي يغشى زوجته ولا يعرف الوفاء لحبيبته ولا لزوجته، إلى الحنين الطاغي للوطن وملاعب الأطفال رغم المآسي التي يعيش تحت وطأتها الناس بالبلاد، إلى الحوار مع الأب الذي لن يعود، الأب المغرم بأبنائه والشعر وبالبنت الشاعرة المغرمة بأبيها أيضاً، إلى الأم الطيبة التي تخشى على ابنتها من أي تنوير نسوي، إلى اللعب بالعصفور من طفل صغير ومن ثم من رجل محروم ومكبوت إلى حد اللعنة في مجتمع ملعون بالمحرمات، وخاصة الاختلاط بالمرأة.
ثم قرأت الرواية واعدت قراءة بعض أوتارها. القارئ المتعجل سيجد فيها متعة جنسية في مشاهد معينة لا غير، وربما البعض الآخر سيجد فيها الشطط عن المقبول والمعقول في مجتمع متخلف مصاب باللعنة، عندها سيخرج باستنتاج متعجل أيضاً. وهو أمر طبيعي. ولكن القارئ المتمعن والمتأني سيطرح على نفسه السؤال التالي: هل هذا هو هدف الرواية؟ ليس هذا هو الهدف، حسب قناعتي، ولكنه يحقق جانباً مهماً منه، لأن الحب هو الحياة والعشق أو الهيام بكل أنواعه، هو غاية الإنسان في الحياة وجوهر وجوده، وهو من خصائص الإنسان وطبيعته بالفطرة. لهذا لا أشك في أن تتمتع القارئة ويتمتع القارئ وهما يقرأان رواية هروب موناليزا (بوح قيثارة) بوقت جميل والشعور بأحاسيس جياشة ورغبة داخلية في التعبير عن الذات أيضاً. ومن جانبي فقد تمتعت حقاً بها وبأوتارها ومشاهدها. ولكن السؤال الذي طرحته على نفسي هو: ما هي الخصائص التي ميزت هذه الرواية أو السيرة الذاتية للشاعرة الحالمة والمتيمة دوما بحب الإنسان والحياة؟ أود أن الخص ما تلمسته أثناء القراءة بالنقاط التالية:
إن الرواية جسدت رغبة جامحة لا يمكن إيقافها في التعبير عن الذات، في الكشف عن المكنون، في وضع ما يسمى بالحياء المفتعل جانباً، في قول ما يجب أن يقال بكل شفافية وصدقية وأمانة بالغة مع النفس والقارئة والقارئ. إنها الصراحة التي تجعل كل كتاب مرغوباً ومطلوباً ومقبولاً.
والرواية تسجل شاعرية الكاتبة بلغتها الرشيقة والرقيقة التي استخدمتها في انجاز تلك الأوتار الصداحة بالحزن والفرح والألم الدفين والرغبات الجامحة والشبق الذكوري أو النسوي الشديد. إنها شفافة ورقيقة حتى في المواقع التي تتحدث فيها عن القسوة كما عبرت عنه وهي في بيت عائلة رجل الحدود الذي منعها من السفر ولكنه لم يسلمها لقوى الأمن، إنها التفاتة إنسانية لم تفت على شابة ذكية وجميلة مثل بلقيس رغم خشيتها من نظرات الرجل الشرقي المغرم بعصفور المرأة لا غير، على حد تعبير الأستاذ الكاتب والساخر خالد قشطيني (أبو نايل) في واحد من مقالاته الغزيرة بالمعلومات والسخرية، وأن سما العصفور الطفولي باسمه الأصلي.
والرواية تكشف بلا رحمة عن المكنون والمخفي أو "السر" المعلن في المجتمع، عن حقيقة وسلوك الناس، عن الازدواجية المرضية التي تفرضها تقاليد وعادات وتربية المجتمع، عن المشاعر التي يخفونها ويخشون الإعلان عنها، عن شتمهم للواط وممارسته على أوسع نطاق، عن رفض السحاق وممارسته على نطاق واسع، عن بؤس وفاقة الفكر والعقل في المجتمع الإسلامي المأزوم دوماً والخالق للبشرية أزمات غير قليلة.
إنها تكشف بإصرار صارخ وموضوعي مطلوب عما كانت تعيشه وتحسه وهي صبية يافعة، كيف كان البعض يتعامل مع براءتها بسبب الكبت الذي كان يعيشه الجار الشاب أثناء مشاهدة التلفزيون والتي تجسد ذلك الكبت الذي يعاني منه الرجل في مجتمع لا يقدس ولا يجد غير منع الاختلاط وحماية العصفور، حسب تعبير بلقيس، إنه الشرف المزيف للعائلة والمجتمع في وقت تدنس الأنظمة العائلة والمجتمع بشتى الموبقات يومياً. إنها اللعنة حقاً، إنه الجذام الذي أصيبت به المجتمعات الإسلامية، ومنها الإسلامية العربية.
والرواية تعبر ببساطة وعفوية منشودة عن العلاقة الملتبسة دوماً، العلاقة بين القاهر والمقهور, بين السلطة والمواطن والمواطنة، بين سلطة تريد له أن يعيش تحت هيمنتها وظلمها وقهرها واستغلالها وفسادها وإرهابها وقمعها، وبين مواطن يريد ببساطة العيش بكرامة وحرية واستقلالية. والمحصلة لهذه العلاقة هي الانتفاضات والرفض الشعبي والثورات، والتي يمكن أن ترتبط بإعدامات وقتل وسجون وتعذيب الذي يصيب ولا يرحم حتى الأطفال والشيوخ والمرضى، دع عنك الرجال والنساء.
وتقدم الرواية لوحة واقعية عن المهاجرين من بلاد الشرق إلى بلاد الغرب، من بلاد التخلف والحرمان إلى بلدان التقدم والحرية والمشكلات التي يعانون منها في مختلف المجالات، ومنها الجنس والعلاقة بين المرأة والرجل. الواقع الذي أعرفه ان نسبة عالية من العراقيات والعراقيين قد تركوا أو طلقوا زوجاتهم أو أزواجهن، وإن علاقاتهم بالنساء الغربيات محفوفة بالمخاطر. تحدث لي صديق تعرف على امرأة غربية صادقها بعد أن غادر العراق وكان محروماً من النساء سنوات طويلة وربما كل عمره، فما كان منه إلا أن يحبها أو يدخل فيها أكثر من مرة في اليوم الواحد فصبرت عليه ثلاثة شهور صعبة وقاسية حتى أعلنت إنها غير قادرة على العيش على رجل لا يعرف غير الجنس فتركته، فصادق غيرها وسار على نفس الدرب المعوج فتركته بعد شهر واحد لا غير. إن هذا الصديق ليس الوحيد في هذا الأمر، فالكثير من الرجال الشرقيين، وخاصة المسلمين، يقعون في هذه المزية السيئة بسبب الكبت والحرمان وغياب العلاقة الطبيعية بين المرأة والرجل.
إلّا إن السمة المميزة لهذا الكتاب تبرز في طرح الكاتبة وتبنيها الصادق والدائم للموضوع الأساسي في حياة مجتمعاتنا بالعراق والدول العربية وبالدول ذات الأكثرية المسلمة، وأعني به حقوق المرأة وحريتها ومساواتها التامة بالرجل ونضالها المستديم من أجل هذه الغاية. في أغلب صفحات هذا الكتاب يشعر القارئ أو القارئة بأنهما أمام صورة المرأة المغدورة بحقوقها وحريتها وكرامتها لا بسببها بل بسبب موقف المجتمع والقوانين والأعراف والتقاليد البالية والذكور من المرأة التي لم ينصفها الإسلام ومنحها نصف حق الرجل في الميراث وأطلق عليها ناقصة العقل والدين ...الخ من الترهات التي تتناقض مع دور وقدرات وكفاءات وحقيقة المرأة وتتعارض معها. وفي الكتاب صرخة مدوية ضد هذا الواقع المزري الذي تعيش المرأة تحت وطأته، وهي التي تقدم النموذج المتفتح والمنفتح على الحرية والثقافة والحضارة الحديثة. هذا هو من حيث الأساس جوهر الكتاب ومضمونه.
ويتجلى ذلك في التحليل الواقعي لشخصيات الرواية، سواء لشخصها أو لتقمصها شخصية سومر أو تقمص سومر شخصيتها، والأمر في المحصلة سيان. إذ أن التحليل الاجتماعي والنفسي الذي تقدمه عن امرأة شرقية مغرمة مولهة برجل شرقي متزوج من امرأة غربية غنية، متسلطة بمالها ورصيدها في البنك وحقوقها كزوجة، يجسد من جهة عند سومر القلق والتردد والخوف والغيرة وآلام الحب والسهر والانتظار الذي يقارب الموت التدريجي، ويجسد من الجهة الأخرى عجز الرجل الشرقي وفقدان حريته إزاء اتخاذ قرار حاسم بين زوجته المعلن عنها وزوجته السرية. إنها الخشية منها ومن غياب النعيم المالي الذي يعيش في بحبوحته، وليذهب الجميع إلى الجحيم. إنه رجل مسكون بشهوته الجنسية، يأتي متى تؤرقه هذه الشهوة، ومتى لا تكفيه أو لا تشبع غريزته المرأة القديمة، وليس للمرأة الثانية سوى فتح ساقيها له ليشبع تلك الغريزة ويغادر المنزل ليعود متى شاء هو وليس متى تشاء هي، إذ ليس لها، أو للمرأة في قاموسه الذكوري من حقوق ومصالح. إن الصراع الداخلي الذي عاشته سومر يدمر وضعها النفسي ويزيدها تعقيداً، كما يجسد أوضاع المرأة الشرقية وحالتها النفسية ليس في حالة واحدة هي الزواج من رجل متزوج، فهذه الحالة نموذج لأوضاع أخرى تعيشها المرأة كفرض الزواج على شابة ما تزال في مرحلة بين الطفولة والصبا من رجل بلغ سن الشيخوخة والكهولة...الخ، أو التزويج كصة بكصة ...الخ.
وأخيراً يقدم الكتاب لوحات جميلة عن حب إنساني عميق، عن تفاعل روحين وجسدين في حركة واحدة تعبر عن ذوبانهما في لحظة هانئة.
أتمنى أن يتسنى للجميع قراءة هذا الكتاب ليجدوا في المتعة والثقة في أنفسهم والجرأة في التعبير الحضاري والإنساني عما يشعرون به ويتمنون ممارسته.