شاعرة يحترق النبيذ على شفتيها Print
بلقيس حميد حسن

شاعرة يحترق النبيذ على شفتيها


جواد وادي

السؤال الذي ما انفك النقاد والمهتمون في الشأن الثقافي عموما والإبداعي على وجه الخصوص يجدون غموضا في حسمه، هو هل يمكننا تجنيس الإبداع إلى إبداع ذكوري وآخر أنثوي؟
في هذه الثيمة الملتبسة يكون الجميع أمام إشكالية من نوع خاص، يتداخل فيها التحليل النقدي برؤيا المبدع، ولا ننسى موقف القارئ الفطن والمتابع الجاد بهذا الشأن كونه من مكونات النص، والتزام المبدع وبحذر شديد لأنه يكتب لقارئ ندي يمكن أن يحيل النص إلى شرك، بتوظيف مداهن، على المبدع أن يكون في غاية الحذر والفطنة مع نصه.
فهل هناك فارق بين المنتج الذكوري عن صنوه الأنثوي؟ تختلف الآراء حول هذا الموضوع، فمنهم من يجد الفارق كبيرا وينبغي وضع حدود بين هذا وذاك، إنصافا للنص، ومنهم من يجد أن هناك تداخلا يكاد يكون هلاميا وغير محسوس بين الاثنين، وطائفة أخرى لها موقف محايد، ومهما يكن من أمر هذا الإبداع العصي على التفكيك، يبقى المتابع يجد أحيانا صعوبة في الإحالة، ونحن مع كل الآراء الخائضة في هذه الاشكالية، إذ نجد أن لا فرق بين جنسي الابداع أولا، وثانيا لا بد من طغيان النفَس الأنثوي على النص بكل أجناسه الإبداعية ليمنحه أريجا خاصا وعبقا قد يحيل لحظة القراءة أكثر متعة وانشدادا للنص. ونفس الشيء يقال للإبداع الذكوري، ليظل الإبداع الحقيقي مجردا من التجنيس في غالب الحال، لتبقى اللمسات التي لا بد منها والتي تظهر بشكل غير قصدي في النص، وهذا أمر معروف وجائز لإغناء لحظة الكتابة إذا ما أردنا للنص أن يكون صادقا وبمواصفات نجاح وديمومة العمل.

فكم من الابداعات وبكل الأجناس نراها بلغة ذكورية من كاتبة مبدعة والعكس صحيح. بحيث يصعب تمييزها، لقوة التشابك في العمل، لأنها ولادة لقادم يؤثث فضاء القراءة بالجديد دونما فرق بين جنس مبدعه,
تبقى الكتابة أنثوية كانت أم ذكورية، هي شحنات من العطاء الانساني لتحقيق متعة القراءة بسطوة ابداعية تمنح القارئ لحظات من النشوة وتتوحد لديه وحدة العمل, ليبقى المعيار الأساس جودة النص لتتحقق الألفة المطلوبة بين المبدع وقارئه، وهذا هو الهدف الأسمى لأي مبدع.
حين تنحاز الكاتبة للرجل بقصدية لها مدلولاتها لتكرس مخاضات الكتابة العسيرة والمشحونة بالوجد والعذابات بلحظات تمرد على الذات الكاتبة لتتخلص ولو لحين وبصدق متناه من ذلك الحسي المجرد وغير الموجه، لتحقيق متعة التواصل على البياض مع من ترغب دون أن تشي بنواياها بحثا عمن تحب لتقتنص لحظات فرح ومسامرة وبهاء، وتشعر بأنوثتها الحقيقية وقد مدت خيوط الألفة غير المرئية وبموقف رافض للمدجن وشجاع لتتجاوز الكوابح المجتمعية الرثة، لتعلن وبتجاسر عن كينونتها الانسانية غير المهادنة لتخرج عن المألوف الشاذ والأناني, هذا الفعل المغامر هو بحد ذاته نضال مقدس, يستحق الوقوف معه ودعمه بكل ممكن لتلمس طريق الانعتاق من تابوهات متخلفة وبالية.
هذا الوضع الباهر يطفو بقوة وحضور آسر ودون عناء الكشف، في نصوص المبدعة الشاعرة البهية بلقيس حميد حسن في كل أعمالها الشعرية الجريئة، وتحديدا في ديوانها الأخير الموسوم (أجمل المخلوقات رجل) الصادر عام 2012 عن دار ميزوبوتاميا في بغداد.
عنوان الديوان يشي بانحياز لا يطاله الشك، بأن الشاعرة المبدعة بلقيس حسن لعلها وجدت من تحب كاكتشاف في أقانيم لا تطالها إلا هي، برحلة إسرائية، لتجعل من فارسها هذا، مرآة لكل رجال الكون، بالرغم من كل الحيثيات التي تميز بين هذا الرجل وذاك، لكنها وبنفَس صوفي تتعامل مع الجميع على أنها مخلوقات ندية، جميلة، تجردها من كل نوازع السوء، لترفعها لمصاف القديسين.
تنادي فارسها وذراعاها ممدودتان باتجاه المجهول لنا، والمرئي لها وحدها وصوتها الأثير يملأ الأفق:
توميْ لوحدتي أن اتبعيني
رجل من عسل أنت
كيف لي وأنا النحلة
التوقف عن الدوران من حولك (ص 5)
حتى وهي بهذه المواجد الغامرة للعثور على فارسها، حبيبها العسلي هذا، تبقى هي مصدر العطاء والتوالد، لأنها هي النحلة، فمن ينتج العسل يا ترى؟ ليعود حبيبها هو وليدها، الذي شكلته بمعرفتها ومثلما تبغي هي، مسيح جديد يتشكل من بذرتها وبداخلها ليولد، حلوا، وديعا، عسلي المذاق والفعل
تومئ لشفتي بقبلة
رجل من عسل أنت
كيف لي، وأنا الحالمة بجناحين
التوقف عن الرحيل
إلى حيث تزقزق العصافير (ص 5)
هذا المقطع الشعري الإيروتيكي، يحرك شهوانية القارئ لا بنزوعه الحسي الفج، وبسطوته الذكورية بنزعة الافتراس البهيمي، بل بمناغاة روحه العطشى للحنو الأنثوي الفاتن، بوجد دامع وشفيف، وهي تناغيه مثلما تترنم شدوا لرضيعها الوديع، ملاكا ملفعا بالبياض، يحرق المسافات ويعدو الفيافي للوصول اليها في حركة دائبة من البحث عن مآله اللذيذ، مرة يغور في أتون الممكن ومرة تبرد جذوته، لتبقى مواقيت الكشف شاخصة في وجودها كله وهو بذات الجنون للامساك بتلابيب المعنى لتلك الترانيم القدسية في محراب الحب الإلهي، رجل من عسل يمني النفس أن يلتقي بمن جعلت منه حلو المذاق وشهي الوجود وبحضور غني وطافح بالمعاني البليغة.
مولاي الأمير
حصاني العربي الأصيل
ما الذي أوجعك وأرخى قدميك الرشيقتين؟ (ص 7)
إنها انتقالات لأنثى متعددة الحالات والحضور العبق، هي في حالة انكسار وهي تترقب اطلالة حبيبها وهو بهذا التوجع الذي أحالها إلى امرأة كسيرة ومحبطة وحبيبها ذلك الجواد الجامح كما عرفته، يتحول الى وضع كسيح غير قادر على حملها كالبراق لأصقاع أخرى أكثر بهاء وغبطة وهي تحلم بفارس يلملم هواجسها في لحظة توحد ليطلي بها جسدها المنقوع بالرغبات، فيا لها من خسارة موجعة لتبرد جذوة الرغبة عندها بعد أن تواشجت معه ليعودا جسدا واحدا ونفسا نديا وتنهدات لا يسمعها سواهما، عاشقين بتواشج حبيب ونقي السريرة، أليست تلك أجمل ما يكون عليه عشق ملائكة الرحمة؟
....................................
.....................................
وأهرب للنبيذ الأحمر المسفوح والمذبوح من وجعي
وتهرب من زوايا يومك الخالي
لتقتل رغبة الجسد (ص 10)
بهذا الوجد الأنثوي تغرق الشاعرة في نشوة الرغبات لتخاطب كل الرجال الباحثين عن ملذات الجسد، ولكن أي جسد هذا، وهو المأسور لحبيبها دون سواه، لكنها ترثي كل الرجال الهائمين في مفازات الحلم وهم بهذا اللفح الذكوري، لتسقي عطاشى الوخزات، الحالمين بنشوة اللا ممكن من نبيذها المسفوح من دمها. فأية منادمة هذه التي ستمنحها لحبيبها وكأن رجال التيه كلهم قد تجمعوا في حظرتها والتنسك في محرابها، لتكون هي الساقية لنبيذها الذي يحترق على شفتيها لهذا الجمع الذكوري المبارك.

إنها أنثى ما لامس جسدها الغيث الذكوري بحثا عن شهوة الخلاص، بل تلك هي بداية الخروج من شرنقة الحصار المضروب عليها منذ أن لامست جسدها البض خيوط الشمس لتهشم كوابح الحصار المضروب عليها وعلى بنات جنسها، وهذا لعمري أبهى ما يكون عليه تطويع الذات المحاصرة لطرد الشائن والمهين وفتح مسارب جديدة من الفرح والانعتاق بمغامرة شعرية قد تنفرد فيها شاعرتنا، بلقيس حميد، وبضراوة الواثق من الانتصار.
توظف الشاعرة لغة مائعة، مندوفة بتنهدات الباحثة عن لحظات تتوحد فيها مع الفارس المجهول، إلا في خيالها، لغة شجاعة وعنيفة أحيانا، تلك هي صرخة الولادات الرافضة لكل أنواع التدجين، وهذا أمر طبيعي من امرأة تنطق بأفواه نساء الكون لتحطم تلك التابوهات الغبية والمذلة.
أليست الكتابة هي صرخة ضد حالات التشظي والالغاء وادانة وفضح الراهن الرث بكل بلاويه ومساوئه؟
تومئ لفلسفتي بالاحتراق
رجل من عسل أنت
كيف لي ألا أعبدك
وهل أعبدك
وأنا الرافضة لكل وثن (ص 6)
حتى وهي تنزع في البحث عن فارسها السديمي والهائم في مفازات الضياع، والحياة المرة، لا تنس أنها مخلوقة لها خصوصيتها، برغم وداعتها، كونها كائن شفاف وطيع، لكن ما أن تحس أن زحفا مرائيا سيحيلها لجارية، لتفريغ نزوات شبق، وتمتد نحوها يد المهانات، تنتفض بقوة لتكشر عن أنيابها وتظهر مخالبها، بذات الشراسة في الحفاظ عن صيرورة اللحظة، لطرد الريح الصفراء، رافضة تسليع جسدها لأي وثن كان.
ديوان الشاعرة بلقيس حميد حسن هذا، تجربة لا مثيل لها من بين المنجز الإبداعي النسائي، الشعري منه تحديدا ، لجرأة التناول بلغة معجمية ماكرة، ولكنها مليئة بالصدق والمكاشفة والبوح الآسر، للوصول إلى ذلك الحلم لنيل من تهوى، أمير أحلامها لتمنحه ذاتها الشاعرة، جسدا وروحا، بأحلام الملائكة. وعطاء القديسين.
مسكين أنت
تستغيث بالعرافات
ولا تقوى على التصريح
لم كل هذا العناء؟
هل هو خوف من الغرق
أم خوف من اللا غرق؟ (ص 56)
هذا هو التحدي بعينه، حين تدافع عن بنات جنسها بهذه القوة والثقة المتناهية، دفاعا عن الكينونة غير القابلة للمساومات والمداهنة الفضة، لترغم حبيبها أن يهيم هلعا ووجدا ولا يتوان بالاستعانة بالعرافات وهو آخر الكي، لكون أنثاه عصية على المهادنة والتسليع.
قصبة خضراء أنا
بقسوة كسرتها
كان الألم عظيما
حين التوت رقبتي إلى جهتك
قبلته بحنو
وفاضت رائحة التفاح (ص34)
توصيف في غاية البهاء بصور شعرية تغزو أعماق القارئ، وكأننا أمام قصة حب رومانسي، لفلم يصور حكاية حب عذري ليافعين بطراوة النرجس، القسوة هي القسوة والوداعة هي الوداعة، ورغم الألم العظيم لهذه المخلوقة الندية، لم تنس أنها خزين من الأحاسيس والمشاعر وتبقى لغة التسامح سر وجودها.
هل من وفاء أكثر من هذا؟
نلاحظ هنا أن الشاعرة توظف في المقطع الواحد ضمائر مختلفة لتمنح النص انتقالات تفيض بالحنين وبحضور شعري ينم عن دربة شعرية وقدرة على امتلاك أدوات العارف بسر الكتابة ودهاليزها، بتفنن وقدرة وتمكن، مما يمنح مسرة القراءة القا أكثر. لجوء الشاعرة إلى كتابة قصيدة التفعيلة وكأني بها تتقصد هذا، لتزين الديوان بهذه النصوص بموسيقاها الرافلة بالأنس والعذوبة المأسوف على غيابها في المنتج الشعري الراهن.
ونحن نغادر هذا الانس الشعري الفاتن، نتمنى للشاعرة المبدعة بلقيس حميد حسن دوام الالق والبهاء، لتغني المشهد الشعري العراقي عموما والنسوي على وجه التحديد، بالمزيد من الابداعات القادمة لرفد المكتبة الشعرية بالجديد من العطاء الشعري المميز، وأرى شخصيا أن الشاعرة ستحقق هذا الأمل لقدرتها في امتلاك موهبة الكتابة الشعرية بشكل لافت ورصين.
الديوان: أجمل المخلوقات رجل
من منشورات ميزوبوتاميا
الغلاف من انجاز دار صفحات دمشق
يقع الديوان في 112 صفحة
يحتوي على 51 نصا شعريا
ويتضمن الديوان السيرة الذاتية للشاعرة يغطي نبذة عن حياتها وأهم اعمالها الشعرية والجوائز الحاصلة عليها.....
20-5-2013