مهمة الشاعر في أجمل المخلوقات رجل لبلقيس حميد حسن Print
مهمة الشاعر في أجمل المخلوقات رجل لبلقيس حميد حسن
محمد الذهبي
ربما اجد وانا اتصفح مجموعة الشاعرة بلقيس حميد حسن اجمل المخلوقات رجل نفسي مضطرا لان اسلط الضوء على مهمة الشاعر، وفي البداية ساتطرق الى هذه المهمة بحذر شديد لانها بدأت بالتراتيل والاناشيد الدينية، وهو في ذاك وهذا يبقى الشاعر معنيا بخلق صور ذهنية، وهو فعل يحاول فيه الشاعر ان يجسد موضوعا حاضرا او غائبا، موجودا او غير موجود ، ربما يكون المحتوى ماديا او ماديا روحيا كما في اجمل المخلوقات رجل لبلقيس حميد حسن، وربما لم تتعب بلقيس في ايصال او رسم الصورة الذهنية لان لموضوع متداول، لكن المعالجة تختلف فقد ذهب الاقدمون الى ان الحافر ربما يقع على الحافر لكن الاختلاف والابداع يبقى داخل طريقة تناول الموضوع ، فلطالما وجدنا شعراء الحب والغزل من الرجال، لكن بلقيس حين طرقت هذا الباب طرقته بجرأة عالية، وهذا هو شكل الاختلاف بينها وبين شعراء الحب من الرجال والنساء المعدودات، لم يكن الامر في خانة العبث كما يتهيأ للبعض، لان في عالم العبث كما يقول كامي كل الاشياء متساوية في القيمة، ومع هذا فالوعي يبقى حاضرا ليراه الآخرون على امل التماثل والاندماج في العمل الابداعي، اي تحريك كوامن القارىء باتجاه استنساخ النص وتسقيطه على الذات، مايعني انتاج النص بصورة ذهنية اخرى او متماثلة، وهذا مايحدث في النصوص المتميزة، يستطيع اي قارىء ان يكون مكان المبدع في اندماج عضوي وروحي، حيث يقفز المبدع من خلال النصوص معلنا عن نفسه ومؤكدا تفرده في مضمار وحيه وابداعه.
لم تكن حيرة الشعر سوى غياب للتوازن بين الذهن والمحيط الانساني بعيدا عن التجارب الاولى للشعر الواقعي، او ماوصلتنا من نصوص لادب ماقبل الاسلام والاسلامي وعصور الادب اللاحقة لحين دخول الحداثة وما بعدها، وبالتالي فان الشاعر يحاول ان يرسم صورا توحي بانه لايمتلك اليقين في شيء على عكس الادب الممنهج او المؤدلج، وزيادة على ذلك فانه يحاول ان يعطي صورة ناصعة عن غياب هذا اليقين الذي يتمسك به المصلحون، وليس من دواعي العبث ان يسبر الشاعر غور هذه العوالم، فهو اي الشاعر معني بخرق القواعد الاخلاقية او الاعتراض عليها، لانه مسكون بقوى التغيير، ولو اننا تساءلنا عن مايعنيه القارىء للمبدع، لوجدنا انه يعني له الكثير بحسب مشاركته الفعل الابداعي وتأويلات النص المقروء وهذا يشبه الى حد كبير طريقة تداول الكتب المقدسة القابلة للتأويل والمفاضلة، بمعنى ان النص الادبي يعني الكثير وتكمن اهميته في ذهن القارىء الحصيف، وكيفية انتاجه مرة اخرى والبناء عليه، وهنا تكمن اهمية انتاج وتوزيع العمل الابداعي واعادة الطبع لمرات عديدة.
لم يكن الشعر في الماضي سوى فردوس ينشده الشاعر وتستقبله القبيلة بفرح غامر، اوربما كان الشاعر رسولا ينبىء قومه بما سيلاقون من عنت الطبيعة وتقلبات الايام، او انه يضع امامهم حلولا لالغاز الحياة الكثيرة مركزا على اخلاقيات وقواعد المجتمع من اجل اعلاء شأنها، والذي يخرج عن هذا المفهوم يصبح مطرودا او خليعا اوملعونا، وبقي الشاعر الملتزم انموذجا للشعراء، فكان التقليد ومتابعة سير الاولين الى عهد دخول الحضارات، فاختلفت التجربة وبدأ الشعر يسلك طرقا اخرى على يد المجددين من الشعراء، فبدأ الخروج على وحدة القصيدة ونمطية الشعر، وعلى هذا الاساس تفتتح بلقيس مجموعتها بقصيدة رجل من عسل، حيث تشكل الانثى عنصر المفاجأة، اي انها تطوع المفردة للوصول الى رسم صورة متكاملة الابعاد :
رجل من عسل انت
كيف لي الّا اعبدك
وهل اعبدك
وانا الرافضة لكل وثن
ان الفعل الابداعي يقترن بعض الاحيان بتجربة حياتية تتطور ذهنيا في مخيلة الشاعر لتنتج في النهاية نصا او نصوصا ابداعية، وربما نهج العقل منهجا آخر في افتراضات عديدة لتصبح التجربة اسطورة مثلا بعد ان تتداول على شكل معجزة، وتكبر الاسطورة كلما كبرت الفاجعة، وليس من المفترض في اجمل المخلوقات رجل ان يكون خلف الكواليس رجلا عاديا او عابرا، وانما هو رجل من عسل والامير والجواد الاصيل والاله الذي تعلن الشاعرة انها لايمكن ان تعود الى عبادته ثانية، وتدخل في حيرة اختيار الرمز فتعود الى مخاطبته:
أسألك الرأفة
فجروحي أزمنت
انزل عليّ قطراتك
وبلّ ظمئي
وتجربة الشعر من النزاهة والصدقية بحيث يستنطق الشاعر جميع حواسه ومن ثم يبوح، حيث يقرر رامبو ان الحياة الحقيقية في مكان آخر، فانه يقصد حرية الكلمات والثورة على طغيان العقل، سباق ومطاردة للكلمات مع بعضها حيث تعلن بلقيس في قصيدة اعلن موتي عن موتها فتقول:
رجل أنت تقول
ذكر أنت تقول
تعود متى شئتَ الى لحظات الحيوان
وأنا الأنثى
أجلد جسدي بسياط الحب وأعلن موتي
ومن هذا المنطلق يمكن ملاحظة غابة الرموز التي يركز عليها بودلير، وتكون فيها مهمة الشاعر تفكيكها، هذه الرموز التي فرضتها حقيقة وجودنا ومجالها الواسع، ومع هذا فقد لاحظنا فرضيات الوجود لدى بلقيس( تعود متى شئت الى لحظات الحيوان)، هي رؤى واقعية ولكنها تتجاوز الواقعية الى التنديد بصورة الحياة الحالية والتمرد عليها باعلان الموت.
وتعود الشاعرة ثانية للافتراض والجرأة معا في قصيدة زيتك النبيل، لتستعيد اللحظات الغائبة، عن طريق استحضار الصورة في القصيدة وتشكيلها بابعاد مختلفة تضع مقاساتها هي:
حتى لاتتكسر بقايا الأشياء
نهرب حين لفح حرائقي يهجم
أتعجل كؤوس النبيذ
لأعيش مع افتراض وجودك
وفي قصيدة عطر المعابد اوحت الشاعرة من قريب جدا الى ليل الفحولة وجبروتها، وفي المقابل هناك انصياع الانثى مهما كانت الى نداء قلبها فهي تحب بشكل تتسيده الفجيعة والدموع والانهيار:
انتظرتُ خائفة
ضيعت الشبه الذي كان
واستفحلت المسافة
ومن بعد ذلك يعتريها الشك بانوثتها فتبحث عن مبرر للعاشق الذي غادر مسافات الفحولة ، تتأمل تضاريس الجسد والتكورات وترى ان كل شيء مفعم بالحياة، فلماذا اقتربت نهايات الاشياء واختفى كل شيء، تجهد بلقيس ان تحافظ على مهمة الشاعر فهي دائما ترسم الصورة لتشكل ابعادها لدى المتلقي:
ها انا ذي اقف امام المرآة
أتلمس الحنين وشبقي المفعم بالحياة
أعدّ السنين بتضاريسي
لازالت النيران
ولازالت التكورات نافرة
وفي قصيدتها كنت الواحد .... العاشر... والالفا فهي تجنح الى الايقاع، ايقاع الجملة والمقطع وليس ايقاع المفردة الواحدة:
وكنت أجيد ملحمة السرور أجنُّ
حين الروح تنطلقُُ
برفقة لون عينيكَ الحميمي
وكنت أجيد زرع الورد بالأرضِ
اسافرُ في لهاثِ الحب للوطنِ
الوطن الحبيب او الحبيب الوطن، هكذا هي حيث تزاوج مزاوجة رائعة عند اقتراب اللهاث، يكون الوطن حاضرا، اي ان الحب في الغربة وطن آخر وطن من رغبة، حيث تداعت صورة الوطن بلهاث الحب لتبقى مهمة الشاعر عسيرة جدا، لانه دائما مطالب برسم صورة اخرى للحدث، فحين يرسم صورة الحدث مجردة وفوتوغراقية يقع فريسة للتقريرية والمباشرة ولذا نراه يحاول تركيب الاشياء بصيغة اخرى ، ورسم صور مركبة يشترك فيها العشق ويختلط بالحنين، انها مجموعة جديرة بالقراءة حيث وضعت فيها الشاعرة آلام الحب مقترنة بآلام الغربة، ونسجت عواطفها بجرأة عالية ورسمت صورا ذهنية لدى القارىء جعلته شريكا معها في الفجيعة.