المرأة العربية في "دنيا جات" Print
المرأة العربية في "دنيا جات"

بلقيس حميد حسن

صدر للدكتورة لطيفة حليم استاذة الأدب العربي في جامعة الرباط هذا العام رواية بعنوان "دنيا جات" , صدرت الرواية عن منشورات زاوية للفن والثقافة – الرباط المغرب..
عرفتنا الكتورة لطيفة في روايتها بأشكال مختلفة لحيوات نسوة شرقيات , منهن من رضخت للواقع وقبلت ان تكون جارية" لسي السيد" لا لأنها لا تريد التسيّد والحرية, بل لانها لا تعرف سوى نمط واحد من العلاقات , العلاقات التي تكون المرأة على اساسها طباخة جيدة وانثى تسعد زوجها وربما تزيد على ذلك بقدرة اكبر على الخياطة والتطريز .. واقع لم يتغير عن واقع الامهات والجدات , والذي اصبح تراثا يقدس عند شعوب اصرت على عدم تغيير أي شيء , من التقاليد, الى الافكار, الى طرق العبادة والقوانين التي لا تمت للحاضر بصلة بل هي تنظـّم وتهتم بمجتمع البداوة الضاج بالخيم والإبل وبيع وشراء الإماء والعبيد ..
نزفت الدكتورة لطيفة في هذه الرواية ماعند المرأة من قهر , باسلوب هاديء لا يحمل اية ثورة في الشكل , لكنه يحمل كل الثورات في النتيجة .
بين دفات الكتاب يتعايش القاريء مع عمل المرأة في اماكن عديدة , فهو يعمل معها في المطبخ حتى يبلغ حد الملل من عمل المرأة, وباسلوب رتيب يجعلك بدون ان تشعر تنفر من بلاهة حيطان المطبخ حين تطبق على أحد , لقد نجحت الكاتبة في اذكاء حب التغيير بداخل القاريء بدون اية جمل ثورية , نجحت في ان تجعلك تصرخ من الاعماق بالرغبة بتحرير المرأة من العمل اليومي الممل , انها تدرك ماتكتب حينما تمنحك فرصا كثيرة لدخول عوالم النساء واحاديثهن , تسمعك اسرارهن الصغيرة تثبت لك ضرورة العمل على توعية المرأة التي ترزح تحت ثقل قيودها في شكليات المودة وصفة المتلقي دوما , ترهقك تلك النسوة من بطلات الرواية اللواتي يتحدثن لساعات طويلة عن الأكلات والستائر وحاجات الاطفال الساذجة .
ومع سبق الاصرار والترصد تقودك الرواية الي نظرة واقعية لترى المأساة بعينك وتعرف ان المرأة في العالم العربي لازالت غير محددة الهوية , ولازال هناك لبس وشك بانسانيتها من خلال التصرف بها تحت مسميات الزواج وسواه, لتكون مثل حقيبة ترسل احيانا للزوج عبر القارات ليستمتع بها او يركلها بعد ان يشبع فتعود جارة اذيال الكآبة والبكاء غالبا على صغار زغب حرمت منهم لتبكيهم طوال عمرها المختصر بكل شيء, منزوية تحت اسم مطلقة , لاتجرؤ على مواجهة السادة والسيدات الذين اعتبروها درجة ثانية في سلم النساء .
يدخلك اسلوب الكاتبة بموجات ملل مقصودة , فهي هنا تستخدم ذات اسلوب المعيشة الممل لتلك النسوة القانتات والقارات في البيوت لصالح اعمال الرجل وراحته, يذكرك هذا بنجاح الاغنية التي تنسجم موسيقاها مع معنى الكلمات لتأخذك لعالمها وتبعدك عن الواقع هائما في زمنها دائرا بدائرة الشاعر منسجما مع رغباته وقضاياه.
تسمعك احاديثهن لساعات عن عمل الحلويات في المطبخ أوعن التطريز وترتيب الاثاث , نساء لا يمت أي شيء يفعلنه بعالم التطور الذي تمر به البشرية , مغيـّبات , مهمّشات في الظلمة وبين الجدران , تعودن ان يكن شيئا لإكمال حياة الرجل , بل حاجة ماسة لإسعاده .
الدكتورة لطيفة حليم تسرد الاحداث وهي تهمس لك بين فترة واخرى بمعلومة مفيدة تجعلك تتشظى حرقة على الفوارق المفجعة في عالم الشرق , وكل ذلك لتريك الفرق بين عالم المعرفة وعالم اللامعرفة , الفرق بين عالم يسير نحو النجوم واكتشاف خبايا الطبيعة , وعالم لازال قابعا بعيدا لايشبه عالم العصر الا بمقتنيات مستوردة مشتراة من السوق ..
لقد جردت الكاتبة لنا واقعنا العربي من استاره واحجبته لنراه على حقيقته , لاهثا وراء المظاهر التي استغرقته وجعلته عبدا لها , الشكليات , الطقوس , العادات , الموروثات , العيب , الفضائح , السمعة وكلام الناس , هو كل مايهم مجتمعاتنا , اما العلم واستقلال الشخصية واتخاذ القرار الصائب وبناء الانسان , فهو في اشكاليات ودوامات لم تحسم بعد , وان حسمت ففي المطبخ غالبا وعلى طاولة الطعام , لااكثر من ذلك ...
في دنيا جات سخرت الكاتبة من التخلف لكنها لم تفصح عنه بالكلمات , شعرنا به عن طريق سرد الاحداث والوصف دون المساس بمشاعر فئة او مجموعة , لمسنا ان هناك اعترافا بجهل المرأة الشرقية واستلابها من قبل المجتمع الذكوري اذ تبقى راضية بعبوديتها , كل هذا بدون ان تستعمل الكاتبة كلمات طنانة وجمل فلسفية وسياسية معقدة ,بل وصلنا له كنتيجة لقراءة الكتاب..
لقد اعطتنا الدكتورة لطيفة في روايتها الكثير ووضعت النقاط على افعال واحداث كبيرة سياسية كي تثبت ترابط الواقع الاجتماعي والسياسي , كاشفة عن عمق مأساة المجتمعات غير المستقرة في ظل اوضاع طبقية واجتماعية عالقة بلا حلول, حيث تنعكس كل المصائب السياسية على النسيج الاجتماعي لتمزقه وتعود به القهقرى لصالح حفنة من المنتفعين ..
لقد كان نفس الكاتبة طويلا وصبرها واضحا من خلال دخولها في تفاصيل هي بمثابة المنمنمات الأثرية التي يصعب تجاوزها على صغرها , ففي عالم المرأة تمتزج الافعال الصغيرة بالكبيرة لتخلق صورة خاصة بها وحدها , صورة لايمكننا المرور بها على عجل حيث التطور يجبر البشر على عقد المواثيق الدولية مؤكدا انسانية المرأة بالعدالة الاجتماعية والمساواة , صورة يقف امامها العالم كله ليعترف في اهم هيئاته الدولية بضرورة اكتمال النظرة الحضارية للمرأة , فكيف بنا بعالم الشرق الساحر حينما تستعمل المرأة به مخدعها وادوات زينتها لصناعة واقع آخر بعيدا عن العقل الذي تشرأب رقبته نحو الحضارة بكل مابها من حرية وعشق للحقيقة؟ ..
دنيا جات رواية جديرة بالقراءة لانها تدخلنا العالم الذي نرى به جداتنا الراحلات قبل قرون يعشن معنا وبذات الاحساس باننا احياء .
انه عالم انكشاف البراقع ورفع الأقنعة بكل صراحة ووضوح
20-12-2007