نافذة

دروس الهزيمة Print

دروس الهزيمة


 بلقيس حميد حسن

تؤكد تجارب الشعوب في التأريخ - وحسب بحوث علم الاجتماع - على أهمية الواقعية كمنهج لدراسة الأحداث الجارية على الأرض لاتخاذ قرار نافع, وأ ثبتت أن من يستمد قراراته وفق أسس معرفية ودراسة جادة لظروفه وإمكاناته الشخصية وبموضوعية عالية, لابد وأن ينجح وصولا لمبتغاه , ويحقق النتائج المرجوة, بخلاف من كانت تقديراته لواقعه الشخصي تجانب الدقة والواقعية , حيث أنها شطحت في خيال وأمنيات طوباوية لا تلامس واقع الأرض.
حال امتنا, حال هذا الفرد المصدوم, فبالواقعية نفهم كيف خسرنا ذات يوم لنفهم كيف سننجح, مثلما قال همنغواي : إذا عرفنا كيف خسرنا سنعرف كيف ننجح.... أو بعلمية أدق حين فشل ذلك العالم الفيزيائي في 99 محاولة , قال لتلاميذه بعدها :
أيها التلاميذ ألان عرفنا هذا العدد الهائل من الطرق الفاشلة !.
ألان وأنا أفكر بواقعنا كعرب, أجد حجم افتقارنا في اغلب الأمور لهذه الواقعية خاصة بالمنحى السياسي, فلطالما ركبنا خيولا جامحة من أحلام اعتبرناها أهدافا لنا , راكضين ورائها حتى نسقط منحدرين أو منتحرين من على صهوات خيالنا الجامح ذاك , أتسائل :
هل استفدنا من تراكم هذه الأعداد الهائلة من الخسارات ؟
هل دونـّا لها ووثقناها في سجلات مستقبل أجيالنا؟.
هكذا بنظرة ناقدة , وبجرأة لابد منها لضرورتها الحتمية , نستطيع أن نقلب أوراق تأريخنا الحديث لنرى صحة قراراتنا, ونرى إلى الأسس التي انطلقنا منها لكتابة أهدافنا واتخاذ القرارات .
سيبدو مثل هذا الكلام إنشاء وتنظيرات بعيدة عن الواقع أيضا ولكنا حين نضرب لها مثلا ما ستتوثق وتكون صميمية اكثر , ولعل في اختيار مثل لا يختلف عليه اثنان سيدعم ما نذهب أليه, هكذا أذن ليكن مثلنا القضية الكبرى التي شغلت العالم عربيا وغير عربي, القضية , المعضلة , العويصة , التي لا تـُحل بل تتعقد يوما بعد آخر, متدحرجة من بين يد الإنسان العربي قبيل أن تصل إلى قمة حل ٍ كما لو أنها صخرة سيزيف .......
لنرى فيما لو أن غياب واقعيتنا كان سببا في هذا التعقيد أم لا؟
ففي عام 1948 خسر العرب معركتين ؛ الأولى عسكرية والثانية عدم الرضا بالتقسيم الذي كان لو أننا توفرنا على سياسيين قادرين على استشراف قادم المتغيرات السياسية, لجنبنا الأمة ما هي عليه من تأخر وفجائع خسارات مهولة, إذ لم نقدر حجم وقدرات العدو على ما كان عليه كما لم نقدرها ألان , فقد واجهنا العدو بعد رفضنا قرار التقسيم بأسلحة بائسة واعتقدنا رحيله بقدر من الأناشيد الوطنية والتحذيرية بحرقه ورميه بالبحر , وكان بالمقابل يواجهنا بسلاح متطور وبإنسان حر متعلم يتمتع بكل ما لدى الدول المتحضرة من ديمقراطية وثقة بالنفس, حتى انحسرنا إلى خطوط خلفية لا تكفي لربع شعب فلسطين بل لا تكفي للاجئين الفلسطينيين وقوفا, هذا إن قبلت إسرائيل بعودة بعضهم إلى أرضه , فكم كان سيكون انتصارا لو أن اللاجئين هؤلاء والذين عاشوا بالشتات كانوا قد بقوا في الجزء الفلسطيني كما حدد من قبل الأمم المتحدة في ذلك العام , وها نحن اليوم نقع بذات أخطاءنا رغم أننا نملك تجارب خسارات تراكمية – للأسف- لم نستفد منها , كما رآها السادات الذي فكر بواقعية رفضها كل العرب معتبرينه خائنا حتى فرحوا بقتله- إن لم يكن بعضهم قد ساهم فيه- وقد اثبت التاريخ انه الوحيد الذي حرر شيئا من ارض العرب بعقله وبواقعيته.
لقد خلفت لنا مواقف الديكتاتوريات العربية ركاما من شعارات بلا منجز أو مكسب , مثلما حملتنا تركة ثقيلة من جهل متفش وأمية تتزايد بعالم يعبر نحو النور سريعا مخلفا إيانا في مشاكل ما وجدنا لها من حل طيلة عقود متحججين بالقضية المركزية حتى غدونا نعيش بالتاريخ متناسين واقعنا المرير وكل ما يمليه علينا .
وهكذا بعد أن يأسنا من أغلب الحكومات التي جرتنا لكل هذه المآزق, أصبحنا نعول اليوم على معارضات واقعية تفكر بمصلحة الإنسان أولا وتجعله قيمة عليا مقدرة حجم ما لدينا من مشاكل ومخلفات ديكتاتوريات دمرتنا , حتما سنعول على معارضات لا تزج بالإنسان العربي صوب محارق ومهالك في غنى عنها بل تعرف كيف تتعامل مع العدو بروح سياسية قادرة على الحوار والمناورة, لتجلب الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي لشعوب دمرتها المشاكل السياسية والحروب سنينا.
ألان بعد أن اصبح العالم بمعسكر واحد لابد لنا من سياسة جديدة تتناسب مع هذا الدور الذي سيلعبه المعسكر الوحيد , لنكن اكثر حكمة وترو بالتعامل مع القوة , وان كانت وحشا , فالحكماء علمونا كيف تروض الوحوش بالعقل والحكمة, فلو عدنا لترائنا العربي الذي اعتقد البعض بنهايته وغياب شأوه في واقعنا الحالي لوجدنا كثير الحكمة مما ينهض هذه الأمة , فها هو الكواكبي في كتاب طبائع الاستبداد يقولها جلية لا غبار عليها :
إن الراغب في نهضة قومه, عليه أن يهيئ نفسه ويزن استعداده ثم يعزم متوكلا في خلق النجاح" ومبنى قاعدة أن الاستبداد لا يقاوم بالشدة , إنما يقاوم بالحكمة والتدرج هو : إن الوسيلة الوحيدة الفعالة لقطع دابر الاستبداد هي ترقي الأمة في الإدراك والإحساس, وهذا لا يتأتى إلا بالتعليم والتحميس"
قال رائد النهضة العربية كلماته هذه كخلاصة لكتابه الشهير الذي أبقاه الكثيرون على رفوفهم , ونقولها ألان كمبنى واقعي لفكرة تحدثنا عنها, ولو عاش الكواكبي في ايامنا هذه لكان مكفرا ومهدورا دمه ومفخخة طرق ترحاله , ولرأيناه من على شاشة فضائية عربية ما, منكسرا تحت فوهة بنادق جاهلة متطرفة , وربما كان سعيد حظ انه لم يعش زماننا المبتعد عن الحكمة والواقعية ..
وأتساءل بألم الهزيمة التي نعيش ذكراها , هل صار حلما طوباويا أن تتحقق الواقعية العربية ؟

 6-6-2005