نافذة

ُمخطئ ٌ مَن ظـَن يوماً أن للثعلبِ دينا Print

 

ُمخطئ ٌ مَن ظـَن يوماً أن للثعلبِ دينا

 

بلقيس حميد حسن


 كان الحكيم الصيني كونفوشيوس  قد مرّ على بلدة ما , ورأى امرأة تجلس على قبر ولد لها وتنتحب نادبة إياه , ثم في العام التالي وجد نفس المرأة تبكي على قبر ولد  آخر لها  في هذا العام , وفي العام الثالث تكرر نفس المشهد فما كان من الحكيم,  إلا أن تدخل وسأل المرأة عن قصة أولادها الذين تقبرهم كل عام , فأجابت المرأة: أن ذئبا  في بلادنا يأكل لي كل ولد ألدهُ  وقد أكل هذا العام زوجي أيضا , فقال لها الحكيم , لماذا لم تفكري بالرحيل إلى بلد آخر لا يوجد به ذئب ؟  فأجابت أنها  لا تريد الرحيل من هذا البلد , لأن حاكمه عادل .
 التفت كونفوشيوس لطلابه قائلا خذوا العبرة منها فالناس يرون أن الحاكم الظالم اشد عليهم قسوة من فك وحش مفترس يأكل أولادهم .
من هذه القصة نستنتج كم أن الظلم قبيح ومرعب, وكم يجعل الحياة مستحيلة في أي بلد كان , حتى أن هذه الأم تفضل أن تجازف بحياة أولادها بسبب وجود الذئب على أن ترحل لبلد يحكمه ظالم, فالقتل على يد الذئب يعتبر قدرا طبيعيا  كالقتل بعاصفة أو زلزال , مثل بقية الكوارث التي قد يموت بها الفرد أو ينجو, لكن الموت على يد حاكم  ظالم لامناص منه حتما , وكم نادر وجود العدل بالحكم  بحيث يضحي الناس بكل شيء في سبيله لأنه أساس الحياة الكريمة.

أردت بهذه المقدمة أن أقول أن أهل العراق الذين يبحثون الآن عن عظام أحبابهم بين المقابر , وبين أوراق المخابرات وبناياتها المرعبة , التي باتت نهبا للبشر والقطط والكلاب, والذين يفتحون مجالس العزاء ويستقبلون الناس للمواساة بفجائعهم , ليسوا هم ذاتهم الذين يفكرون بمَن من العراقيين المعارضين قد أخطأ ومن لم يخطأ؟ , وهذا لا يعني أنهم أقل وطنية من سواهم , بل هم أكثر الناس ارتباطا بالقضايا الوطنية والإنسانية , بدليل أنهم وأبنائهم الذين تحولوا إلى عظام,  قالوا لا للنظام المستبد , جميعهم  و من مختلف القوميات والأديان والاتجاهات, وإن أحصينا كل الشهداء والضحايا سوف لم نجد عائلة واحدة بالعراق قد  سلمت من بطش النظام  سوى صدام وأولاده وبعض أزلا مه المتشبثين اليوم بأساليب الموت والدمار والواضعين أيديهم وأسلحتهم لقتل العراقيين وتدمير العراق  إذ هم  تعودوا توجيه سلاحهم  ضد أبناء الوطن .
إن المنطق يقول أن أية مجموعة من البشر تحيطها النيران من كل الجوانب فتهدد حياتها ,  لا تفكر إلا بإطفاء هذه النيران قبل كل شيء ,  حتى وإن اختلفت فيما بينها , إذن العراقي اليوم يريد الأمان كأول مطلب له , يريد أن يكون له أبسط  حق أقرته الشرائع والقوانين ألا وهو حقه بالحياة الآمنة.
العراقي اليوم يريد أول ما يريد هو أن يتأكد بأن الظالم صدام وحزبه قد ذهبا بلا عودة , وليشعر العراقي بالأمان لابد من أن يساهم بالقضاء على الرعب والإرهاب, وأن يختار   حاكميه من الموثوق بهم وبأسرع ما يمكن لقطع الطريق النهائي على القتلة والمخربين .

وأقول  للإعلام العربي الذي يحاول تأجيج الصراعات بين الطوائف ويردد كلمة الحرب الأهلية والطائفية وتقسيم العراق,  ليعتبرها واقعا يهيئ له النفوس الضعيفة , أن هذا العمل هو محاولة لإشاعة الصمت الجبان  وحفر قبور أخرى ليست ببعيدة عن العراق , فالديكتاتوريات ليست مهذبة وحنونة بالقدر الذي يتصوره البعض , ولئن  تميز صدام حسين بدمويته وبردود أفعاله الوحشية التي تقشعر لها الأبدان,  والتي جزء منها هو الإبادة البشرية التي مارسها ضد شعبنا العراقي على اختلاف قومياته وأديانه وطوائفه وأعراقه , فإن قوة المعارضة العراقية وعدم سكوت الشعب على الضيم والظلم كان سببا قويا بتكشير هذا الديكتاتور عن أنيابه , ولتتعظ  المعارضات العربية التي ترزح ألان تحت نير حكوماتها التي- بأحسن الأحوال- تسمح للأعلام بامتصاص نقمة الشعب فقط  عن طريق الكوميديا أو الكاريكاتير لتبقى  وليقال عنها أنها تملك شيئا من الديمقراطية , وهانحن قد رأينا بأم أعيننا , أن الدولة العربية التي يعيش بها عدد هائل من المفكرين والعلماء والأدباء والمبدعين , ألا وهي مصر , وتدعي أن بها حرية ومتنفس للصحافة , نرى أن زعيمها عندما أصابته وعكة صحية دعته للسفر خارج القطر , كادت الحكومة أن تـنهار, لان السلطات كلها  قد تجمعت بشخص الحاكم العبقري الملهم , والذي لا شبيه له من بين سبعين مليون مصري ,  ولان العلاج الوطني غير نافع للحكام ولكنه يـُشجع  ويوصف للشعب فقط  رغم أننا  نرى  يوميا  القنوات  الفضائية تضج بالدعاية للمستشفيات والعيادات والاختصاصيين والأدوات الطبية , دونما نعلم  لماذا يتركها حكامنا ويذهبون إلى الخارج فاضحين بذلك أكذوبة الإعلام العربي ومسقطين ثقتهم بالوطن وبالعقل العربي  وبكل ما ينتج عنه من علوم وتقنيات وبحوث, محبطين  بوعي لاشك فيه كل إحساس بالوطنية يحمله عشاق الوطن المساكين,  طاعنين أي أمل لهم بالثقة بما يفعلون , رغم كل هذا والصمت  سيد الموقف وأغلب المفكرين والعظماء العرب يتفرجون بالعي ألسنتهم خائفين من سورة غضب القادة , فأنى لهم التفوه بالديمقراطية والتشدق بها في أوطانهم ؟
 لكنهم ويا للخيبة  يستطيعون أن يعطونا دروسا بالديمقراطية ويطعنون بالعملية الانتخابية المنتظرة في العراق والتي تعتبر أول ثمرة لسقوط حكم البعث الفاشي, إن ما يستطيعونه فقط هو الكلام عن العراق , لان الديكتاتور قد انهار , ولان لا منافع  لهم بعد اليوم , ولطالما يحميهم الصمت في بلدانهم,  فهم شجعان على شعب صارع الموت سنينا .

من هنا نقول وبكل جرأة  وثقة بالمستقبل :

يا اخوتنا العرب لا تظنوا بالديكتاتوريات خيرا , ولا يشغلونكم عنهم بنا, فوالله لو كنتم قد وقفتم لهم كوقفة المعارضة العراقية منذ أربعين عاما , لامتلأت الأوطان بكم مقابر جماعية , إن لم تمتلئ بعضها ألان وأستذكر هنا ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي :

مُخطئ مَن ظنَ يوماً أن للثعلب ِ دينا

فالمعارضات العربية لو كانت بقوة المعارضة العراقية زمن صدام , لتحول كل ديكتاتور عربي  إلى صدّام مرعب , ولأصبح لكل بلد صدامها الفاتح مقابرها والفارم أجساد شبابها   بفرامات  اللحوم  والمذوب  مفكريها وخيرة أبناءها  بأحواض التيزاب  الرهيبة.
 أقول للإعلام العربي , هنيئا لكم صمتكم أمام أصنامكم  دفعا للموت,  وهنيئا لنا سقوط صنمنا  واختصارنا لسنين القهر الذي تقبعون به .
لقد أشرقت شمس الحقيقة  وتعرى الجاني ,  وضَح َ الموقف ألان  فكفوا عن العراق ودعوا شؤونه لأهله , وكونوا أحرارا  من اجل أبناءكم  وتمردوا على أصنامكم إن استطعتم,   فبلدانكم تحتاج شجاعتكم لتضحوا من أجل الحرية الحقيقية للأجيال المقبلة ,  وإن ملكتم الشجاعة حقا  , فإصلاح بيتكم  لا يشترط  رمي  الأوساخ  على الجيران.   


29-11-2004
لاهاي