فاجعة المكتبة المركزية في مدينة سوق الشيوخ |
|
أفجعني يوم أمس إحتراق المكتبة المركزية في مدينة سوق الشيوخ في جنوب العراق، سوق الشيوخ مدينة الشعر ، مدينتي وتلك البقعة التي علمتني خطواتي الأولى نحو الحياة الثقافية .. آه، لقد ذهبت بلا عودة تلك المكتبة التي نهلتُ منها الكثير وتعرفت بها على الأدب العالمي وكتب السياسة والفلسفة بعد أن تعرفت على كتب الشعر في بيت أهلي ومن مكتبة والدي منذ الطفولة. أفجعني أن هناك من يريد للعراقيين أن يبتعدوا عن الثقافة وهم أهلها منذ القدم، فبعد أن تم التعدي على كتب المكتبة المركزية القيمة من المتعصبين وكارهي الثقافة، أُهملت من قبل المسؤولين، وصارت الأزبال تحيط بها وهذا مارأيته بعينيَّ حين زيارتي مدينتي الحبيبة وقد نزلت الدموع من عينيّ عندما أبصرت بؤس ماوصلت اليه تلك المكتبة البيضاء الجميلة التي كنت أرتادها في شبابي الأول كل يوم أحيانا، خاصة في العطل الصيفية حينما كنا نتبارى أنا وأقربائي وصديقاتي على عدد الكتب التي نقرأها في تلك العطل. إنها ذاكرتنا التي لاتمّحي مهما حاولوا. تذكرت بدر الموظف الطيب والمثقف الذي يعمل بالمكتبة والذي كان يخبئ لي أجمل الكتب، أما كتب السياسة الخطرة منها فكان يسجلها باسمه وكأنه هو الذي استعارها خوفا علي من سلطة البعث الدموي وأنا الشابة الصغيرة التي أرادت تجاوز سنّها بسرعة .. الله على تلك الأرواح العظيمة بطيبتها التي كانت تضمها المكتبة المركزية في سوق الشيوخ. الله على أيام اللهاث وراء العلم والأدب وجديد الفكر. أين منّا تلك الأيام وقد أصبح الشباب اليوم لايفقهون من الأدب والثقافة الا مايسمح لهم به التواصل الاجتماعي الذي يهدر وقتهم غالبا بالتفاهات ويدمر لغتهم العربية.. أما الشابات اليوم فمشغولات بأحاديث الدردشة وبالتجميل ودور التجميل التي تنتشر بالعراق حيث تغص بها شوارع بغداد بشكل ملفت ومثير للعجب . لماذا تحترق هذه المكتبة التي شذّبت عقولا وصنعت مثقفين ومهتمين ؟ واضح أن التوجه العام في العالم هو خرفنة العقول وتجهيلها، فماذا يريدون من المكتبات بعد ؟ لقد دمروا مكتبة المدينة حيث أتلفوا مابها من كتب ومصادر وفكر وجمال، ولم يتبق منها سوى عظمٍ يدل عليها او سياجٍ أبيض كان يوما يُسمى مكتبة.. ماذا يريدون من المكتبة مع الأسف، والناس -رجالا ونساءً- ليس لديهم اليوم أهم وأمتع من الذهاب الى المولات التجارية والمطاعم؟ . حتما سينتصب بعد فترة بدل المكتبة مولاً تجاريا كبيرا في وسط المدينة ينافس ويصارع ثم يقضي على تلك الدكاكين التاريخية التي كانت تسمى بالسوق الكبير، وكم أتمنى أن لايكون مصير السوق الكبير مثل مصير المكتبة، فالحيتان الكبيرة من أصحاب رؤوس الأموال المسروقة غالبا لاترتضي بقاء صغار التجار الذين يعيلون عوائلهم عن طريقها أبا عن جد، فهم يعيقون مشاريعهم في الثراء والتطور الجديد كما يزعمون. هذا هو التطور الذي يقودونه الآن أثرياء العالم، ليس بالعراق فحسب بل في كل بلداننا وبلدان أخرى يريدونها أسواقا لهم ولصناعاتهم المجنونة الآتية عبر القارات، يريدونها استثمارا لفسادهم المغمس بالعسل، ماسحين بها كل أثرٍ لتراث أو ذكريات جميلة مفككين بها أواصر العلاقة بالتأريخ الجميل والقيم النبيلة.. وداعا يامكتبتي الحبيبة وداعا أيتها البقعة التي ضمت شغفي الأول بالوعي والفكر وداعا ياكل روح حامت في تلك البناية التي احترقت ومعها قلوب محبي الثقافة والجمال الروحي الحقيقي عبر الأدب الذي نهلنا منه كتباً عظيمة وفكراً خالداً تغلغل في أعماقنا أبدا… 17-7-2023
|