نافذة

المرأة الساردة/ الجزء الرابع Print

المرأة الساردة

-4-

 

بقلم : د.حسن حميد

إن بلقيس حميد حسن، وعبر حضور طاغ، تُقدم المكان والزمان بطلين من أبطال رواية /المربع الأسود/، وهما في شبه عطالة تراوح في تلبثها الملعون فلا نرى أي بهجة للمكان لأن الأماني والرغبات تصبّرت حتى صارت كتلاً حجرية، ومثل هذا الأمر، في الرواية العربية، هو من الأمور النادرة، والأكثر ندرة يتجلى في الرواية التي تكتبها المرأة، لأن العين العاطفية المهمومة بالمشاعر، والتعالق البشري تكون لدى المرأة أكثر يقظة واتساعاً والتقاطاً للتفاصيل المحتشدة بالإيحاء والتعبيرية. ولكثرة حديث بلقيس حميد حسن عن الأمكنة القديمة والحديثة، والبيوت وما فيها، والشوارع وما تتميز به، والأحياء وما حافها من متغيرات سكانية ومكانية.. يحسّ المرأة أن الكاتبة تريد تأبيد البطولة للمكان خوفاً عليه من الضياع والبعثرة والمحو مرة، وشوقاً لجماله ومعانيه مرات، وكذلك هو الزمان الذي يخترم كل شيء.. المكان، والأفكار، والناس، والرغائب، والذي يكاد يكون البطل المؤبد لرواية /المربع الأسود/ أيضاً.

أما شخوص الرواية، فهي شخوص تلعب لعبة الكراسي الموسيقية ليس مع الأحداث والأخبار والقصص والمشهديات فحسب وإنما مع المكان والزمان، فما من شخصية داخل الرواية إلا وهي مبللة بآثار المكان والزمان وما يتركانه من ارتباك وغربة. كل الشخصيات هي شخصيات ارتباك وغربة، حتى المحامي الشيوعي /موريس/ الذي كان متقدماً في العمر والتجربة يعيش الارتباك والغربة، وهو يتعامل مع العراقيين الشيوعيين /الرفاق/ الذين اجتازوا الحدود السورية/العراقية هروباً من القتل وطيوفه، ولعل هذا ما أبداه وهو يلتقي البطلة /السومرية/، فهو لا يصدق أنها، وهي في عمر الثامنة عشرة، أنها عانت ما عانته في السنوات الفارطة من خوف وانتقال وتخفٍ من مكان إلى آخر، ومن هجس بالحرية، كي تتجنب أعين العسس والمخبرين. يقول لها: أنت شابة صغيرة وحلوة! وفي ذلك سؤال استنكاري لأن البطلة بدأت رحلة التعب والتقفي للبعد السياسي والفكري مبكرةً، ولأن ما ينتظرها أكثر من كريهة وأبعد من شرك! وتتجلى غربة /موريس/ حين يقصّ على /السومرية/ سنوات عمله الشيوعي في بغداد، ونفور الناس منه لأن من ديانة أخرى؛ ومع ذلك صبر حتى استطاع افتكاك روحه من الحبال التي قيّدتها، و/نسرين/ المرأة الشابة المتزوجة حديثاً تعيش ارتباكاً وغربة أمام /السومرية/ الضيفة فهي لا تسكن بيتاً يليق بمقام الضيفة، ولا تمتلك من المال ما يأتي بالأطعمة، ولا ما يأتي بالأثاث والأدوات المنزلية التي تجعلها تعلو في نظر ضيفتها، وكذلك ارتباك /نسرين/ وغربتها أمام العجوز الجارة التي تتشارك وإياها في بعض مرافق المنزل المُستأجر. وكذلك نرى حالتي الارتباك والغربة في /منزل النساء/ الغريبات اللواتي جمعتهن ظروف الحياة الصعبة، واحدة تعمل في مطعم، وأخرى في نادٍ ليلي، وثالثة على علاقة واسعة بعالم الرجال، ورابعة سكرتيرة في عيادة طبيب، وخامسة مهندسة، وسادسة تنظم حفلات الأفراح، كل واحدة منهن هي عالم، ومزاج، ورغبات، وأحلام، وكل واحدة منهن لا تصل إلى ما تريده ولا إلى ما تحلم به فتبقى الواحدة منهن تنظر إلى الأخريات نظرة الدهشة والقلق.. لأنها ترى نفسها معلقة في الفضاء مثلما هنّ باديات في مرمى نظرها.. معلقات في الفضاء! (أمل) في الرواية، صورة من صور هؤلاء الفتيات اللواتي دمرتهن طيوف الارتباك والغربة، فقصتها تكاد تكون حجر الزاوية للحديث عن مكانين هما /العراق، وإحدى دول الخليج/ والفوارق الكثيرة بينهما، ولاسيما من زاوية زمنين اثنين /زمن المراهقة والعيش الكريه لأن /الخال/ يتحرش بها، وزمن الشباب الذي وعى معنى الأنوثة ومحاولة حراستها من كواره الذكورية المريضة.

ومنزل /الشهداء الأحياء/ هو مكان آخر يبدي الارتباك والغربة اللذين يعيشهما الفلسطينيون الذين خرجوا من دائرة المواجهة مع العدو الإسرائيلي كمقاتلين، وقد فقدوا ما يحفظ للإنسان إنسانيته، فـ(شادية) بلا قدمين، بلا ساقين بعدما أصابتها شظايا القنابل الإسرائيلية، هي في ارتباك لأنها لا تستطيع العناية بطفلها، وهي في غربة لأنها لا تستطيع أن تمشي معه وقد بدأ خطواته الأولى، وزوجها صاحب ساق خشبية أيضاً! لكأن الإسرائيلي ظن أن قطع أقدام الفلسطينيين سيحول دون مشيهم في دروب تحرير فلسطين؛ كانت أمنية (شادية) أن تفتك نفسها من غربة عدم المشي كي تقود طفلها وهو يمشي خطواته الأولى، لقد بكت بكاء القهر وهي تراه يخطو ويقع، فيبكي.. وتبكي!

وحين نتقدم في الزمن الحديث نرى البنات اليزيديات المختطفات، يعشن حالاً من الارتباك والغربة وقد احتجزن في /غرفة مظلمة، غرفة كانت أحد صفوف مدرسة، فغدت في زمن الربيع العربي غرفة للسجن، السجن/ ريثما يأتي المسلحون ليختار كل واحد منهم فريسته، كن في وسط غرفة محتشدة بالبكاء والخوف والأسئلة والأدعية والرجاءات كي تمرّ بهن معجزة، كي لا يصير الشرف إهانة، وكي لا تصير الكرامة مذلة؛ وكي لا يصير الاغتصاب حكاية جارية على ألسنة الناس! ويا للمشهد الذي ترسمه بلقيس حميد حسن، وقد رأت كل مغتصبة دماء رفيقتها المغتصبة وما خلّفه المسلحون من أوساخ ونتانة.

وشوارع بيروت، ومخيمات الفلسطينيين، والناس يعيشون زمن الاجتياح بارتباك شديد، وغربة قاتلة، ولاسيما بعد أن حدث ما حدث في صبرا وشاتيلا حين صار الألم قرىً، والدم بحيرات، والأسئلة حقولاً من الشوك.

أما الجانب الفني في الرواية، فهو يتجلى من خلال الفصول المتقاطرة تباعاً، لا يفصل بينها شيء سوى العناوين المسربلة بالدهشة، ولا يليها سوى ما باحت به المفكرة الورقية المبللة بالأسى، أو مفكرة الذاكرة التي صارت بئراً للأحزان.

في رواية /المربع الأسود/ لـ بلقيس حميد حسنزمن يتفرع إلى زمنين، أحدهما قديم يتحدث عن عام 1982 وما قبله، أي زمن السبعينيات وبعض زمن عشرية الثمانينيات، وثانيهما الزمن الراهن الذي قيل عنه: إنه زمن الربيع العربي، والمآسي التي حملها معه، والدماء التي دلقها، والمخاوف التي زرعها واستنبتها، والآثار الوحشية التي أطاحت بكل نبيل.

وفي الرواية أقنومات، أقنوم المتن، وأقنوم الهوامش الذي أسمته الكاتبة بالمفكرة! والزمن القديم يماشي متن الرواية وما فيه من أحلام لم تعرف ضوءاً أو نهاراً. والزمن الحديث /الربيع االعربي/ يماشي الأحداث، والأخبار، والقصص، والغصص التي ذاق طعومها المُرة الناس قسراً وخوفاً، وفي غير مكان من البلاد العربية والتي جاءت تحت عنوان /من مفكرتي/، وكأن بلقيس حميد حسن أرادت أن تخفف من وطأة السرد أولاً، ومن حمولة الأحداث ومآسيها ثانياً، فجعلت مدونتها الروائية مشطوراً إلى شطرين، الأول: هو المتن، والثاني: هو المضايفات التي جاءت بها (المفكرة) التي تبدو للوهلة الأولى وكأنها هوامش على حواشي المتن، ولكن الهوامش تفوق في استنارتها ومضايفاتها الدور الذي قام به المتن، وهذه لعبة فنية تعد بمثابة التجديد في التشكيل الفني للسرد الروائي.

وبعد، فإن رواية /المربع الأسود/ للأديبة العراقية بلقيس حميد حسن عمل أدبي يتجاوز البيئات الأربع التي تجلت فيه ليصبح أنموذجاً أدبياً يحكي حكاية الارتباك والغربة التي عاشها المثقف، والسياسي، والفنان، والمقاتل، والمرأة في بعض البلاد العربية، في عقدي السبعينيات والثمانينيات حين ظن الجميع أنهما عقدان للنشور زمنيان والإزدهار بعدما بلغ الوعي مرحلة مهمة من مراحل النضوج والتجربة على نار القراءات والمثاقفة، والانتماء الحزبي، كما أنها، أعني الرواية، عمل أدبي مهموم بتفكيك مقولة /الربيع العربي/ لنرى ما فيها من حمولة ثقيلة شائنة، وما تفتقت عنه من خرابٍ للبنى عامةً، ومنها البنية النفسية التي توهمت وادّعت بأن الليل نهار، وأن مناداة الماضي هي طوق نجاة.

بلى، لقد كتبت بلقيس حميد حسن رواية /المربع الأسود/ لتبقى شاهداً على اثنين، أولهما: الحال العربية وما فيها من ارتباك وغربة، وكلاهما لا يصنعان بلاداً، ولا ينضجان فكرة، ولا يمدان طريقاً نحو الأحلام، وثانيهما: الموهبة الكبيرة، والثقافة الضافية اللتان تعبران عن خزين بلقيس حميد حسن من التوق الرفيع لكتابة جديدةٍ لا تتقفى دروب الآخرين، ولا تتزينا بما تزيّنت به.. كتاباتهم!