نافذة

المرأة الساردة/ الجزء الثالث Print

المرأة الساردة

ـ3ـ

بقلم:د. حسن  حميد


بلى، بدت الأمكنة في رواية /المربع الأسود/ وعبر بيئاتها العراقية، والشامية، واللبنانية، والغربية بطلاً من أهم أبطال الرواية؛ بطلاً ينازع حراك شخوص الرواية في الفعالية، مثلما ينازع الأحداث الحارقة بكل حمولتها من الإخافة والانتظار واليأس من أن تصير الأحلام وقائع مرئية، ولا شيء في رواية /المربع الأسود/ ينادد المكان في الحضور والتأثير سوى الأزمنة التي انشدت إلى البيئات المكانية الأربع، فالمكان الذي استنطق الشخوص وأثر فيها، وغيّر اتجاهاتها وقناعاتها، وقلّل من شهوة الحياة ومطاردتها في فترة الشباب، هو الآخر آخى أزمنة الرواية الثقيلة التي أناخت الأجساد، وهدّت الأرواح، وبددت القناعات القائلة إن الإنسان قادر على التغيير، والفعل، والبناء، والمحو!

فالزمن في البيئة العراقية، وفي مدينة بغداد، زمن ثقيل الوقع، مديد إلى حد البلادة، موجع وأليم لأن انتظاراتها مُدمرة، لا بل هو جارح للروح لأن انتقاله من فاصلة إلى فاصلة أخرى بطيء جداً، أو قل، ولا تتوانَ، هو قاتل إلى حدّ الجهر بالصراخ العالي. الزمن الثقيل الذي انحنت تحته شخوص الرواية، ولاسيما /السومرية/ الراوية للأحداث، صاحبة المبادئ الاشتراكية المتوارية هي في مكان ظليم، وزوجها في مكان ظليم آخر، وأحدهما لا يعرف شيئاً عن الآخر، وكلاهما ينتظران الخبر السار، بأن أحدهما، وبمباركة سماوية، اجتاز الحدود نحو سورية كي ينجو من رعب الأسئلة، والمطاردة، والخوف من الوشاة. زمن بغداد يحول /السومرية/ وهي ابنة ثمانية عشر عاماً إلى كائن ليلي، كائن محتجب يخاف من الضوء، والمخالطة، كائن نسي أن الزمن اليومي مقسوم إلى شطرين: ليل ونهارفصار الزمن ليلاً وأكثر! زمن بغداد الصعيب حوّل الكائنات المثقفة المهمومة بالقضايا الإنسانية الكبرى، والطموحات المحمولة على أكفّ الجينات بالتوارث الفكري إلى كائنات مشلولة، وسكونية تخاف من ألف خوف وخوف، بعد أن كانت تخاف من خوف واحد هو السلطة، أو قل من السجن، والسجن لا تعريف له سوى أنه سجن! ويكاد القارئ، وهو يحتبس أنفاسه، مثل السومرية في مكان اختفائها، يتوحّد توءمةً مع شخوص الرواية، فيسأل عن ما تسأل، ويلوّب علىالإجابات حين تلوّب عليها، وينتظر مألوماً كما تنتظر، وهذا ما أرادت الكتابة أن تمسّ به روح القارئ كيما تصير الأسطر نوافذ للإطلال على الحياة، وكيما تصير الأسطر دروب نجاة! وتكاد لحظات تجهيز /السومرية/ لنفسهالاجتياز الحدود العراقية/السورية تكون هي اللحظات التي تطبق على القلب، لأن كل شيء راح يتنصل من أبعاده الإنسانية، فجواز السفر مزور، والاسم الجديد منحول، والأعصاب مفقودة، والوجه لا ماء فيه ولا دماء، والعينان جوّالتان تطلبان عشاً ولو في قفص من الهواء، لا بل تصير تلك اللحظات حاطبةً حين يرفض مدققو الجوازات على الحدود العراقية/السورية مرور صاحبة الجواز /السومرية/التي غدت كتلة من خوف وقلق ونشفان باتجاه البلاد السورية، فتُعاد إلى حيث هي الظلمة التي عاشت فيها طوال الشهور الماضية، كما تعود إلى حالات البكاء الفاجع التي لا تستطيع الجهر به مخافةً من الأذن الواشية، وما إن تصل إلى عالم الظلمة والتخفي مرة أخرى حتى تعقد تحالفاً جديداً، أشد بأساً من ضرب السّواطير، مع الانتظار الجديد الذي لا تعرف له نهاية أو خاتمة.

زمن بغداد، أو زمن العراق الذي تعيشه السومرية الاشتراكية المطاردة هو زمن الخوف، والارتهان إلى عالم الظلمة/عالم الإماتة، وهو زمن، لشدة وقعه وتأثيره، يتشظى حتى يشمل كل من يعرفها، مثلما يتشظى الخوف موازعةً على الآخرين كي يكتووا بما اكتوت به. وهذا الزمن ليس وحيد اليد أو العين، بل هو زمن متعدد الأيدي والعيون، ومشدود إلى علة الإحاطة بكل ما يتعلق بالسومرية الاشتراكية بدءاً من أيام مدرستها الإعدادية ومن خالطتهم من طالبات وأساتذة، وانتهاءً بمن تعرفت إليهم في الحزب الشيوعي على اختلاف مستوياتهم، وهذا الزمن خانق ومتعب ليس بالنسبة إليها فحسب، بل هو خانق ومتعب بالنسبة لمطارديها من أتباع السلطة، فلهاث الطرفين لا يلملم تشظياته سوى الليل!

والزمن الثاني، هو زمن الوصول إلى دمشق، هو زمن التنفس براحة، أو قل هو زمن التقاط الأنفاس، واللقاء مرة أخرى مع الطمأنينة المفقودة، لكن لكل زمن شجونه، فالسومرية لم تجد زوجها في دمشق، وحين سألت عنه، قيل لها إنه اجتاز الحدود السورية/اللبنانية بجواز سفر مزور، واسم منحول، وأحلام جديدة، لذلك يصير المكث في دمشق هو استمطار جديد لانتظار جديد، إذ ما الذي تفعله في دمشق وزوجها في بيروت، لهذا تجهّز نفسها بمعاونة /موريس/ الرجل الشيوعي المخضرم لتأخذ أوراقاً مزورة، باسم مزور، لتجتاز الحدود من أجل أحلام جديدة.

زمن دمشق كان زمناً قلقاً لإقامة فاقدة لشرعيتها ما دام الزوج بعيداً، ولهذا لم ترَ /السومرية/ شوارع دمشق وأحياءها كما ينبغي لعين عاشقة لها، ولم تتعرف إلى آخرين كيما تمحو مرارة الحياة وقلقها، وكانت تود ذلك بعدما سمعت عن جمال الشام، وعن أعلامها وأفعالهم، لقد كان قلق الزمن القصير في دمشق قلقاً إيجابياً من أجل جمع روحين، واحدة ما زالت علوقاً بدمشق بمكانها وزمنها، وثانية صارت في بيروت. وتجوز السومرية الحدود السورية/اللبنانية على كف محمولة للمقاومة الفلسطينية بوصفها مقاتلة، وكادراً إعلامياً، ومرشدة نفسية، وفي بيروت التي لا تقرّ أزمانها لكثرة تعددها وترادفها، تصير اللاجئة من العراق ضيفة على اللاجئين الفلسطينيين، تعمل معهم، وتعيش أحلامهم، وترى مشاهد من حياتهم، ولاسيما المشاهد المتعلقة بعقابيل هؤلاء الذين سموا بالشهداء الأحياء، هؤلاء الذين تعرضوا للقصف الإسرائيلي فبترت أطراف بعضهم، وطارت عيون بعضهم الآخر، ومنهم من خرج من سجون العدو الإسرائيلي معطوباً وأكثر.

ولم يمتد الزمن في بيروت، ولم تصل الأحلام إلى ضفافها، لأن الاجتياح الإسرائيلي عام 1982 طيّر كل مأمول ومرتجى، وبذلك مضت السومرية وزوجها إلى بيئة رابعة هي بيئة الغرب، وإلى زمن آخر هو زمن اللجوء، وما يسيّله من حنين يرجّ الليل ببكاء كتوم راعب. ذلك الزمن بجهاته الأربع هو زمن متقطع، ومهموم، وموجع، وفاقد للبعد الإنساني لأن /السومرية/ أصيبت بمرض جديد هو مرض /الفقد/ فكل ما كان لها، وكل ما حلمت به صار فقداً، ولعل /الفقد/ للذات التي جعلت الكتاب خديناً لها، والأحلام دروباً تمشيها هو كارثة وأكبر، لأن المكان والزمان والأصدقاء والأفكار والأمنيات كلها صارت بلا معنى لأن /الفقد/ شظّاها وحال بينها وبين التمام أو ما يسمى بالمعنى /الأتمّ/!

ومثلما كان المكان بطلاً من أبطال الرواية /المربع الأسود/ للأديبة بلقيس حميد حسن، كان الزمان الروائي بطلاً على مساحة واسعة من الرواية لأن معانيه نفوذٌتلفّ الشخصيات كلَّها، كما تلفّ الأمكنة كلها. إن زمن الرواية، ولكثرة ما فيه من حمولة، لا يعني زمن البيئات الأربع التي عاشتها بطلة الرواية /السومرية/ فحسب، وإنما يعني الزمن الثقيل الذي عاشته بعض جهات السياسة العربية التي صبغت بعض المجتمعات العربية بما لا يليق بها فأبعدتها كثيراً، وبتجنٍ شديد، عن مساراتها الإنسانية.

٢٤-٧-٢٠١٩