نافذة

المرأة الساردة/ الجزء الثاني Print

المرأة.. السّاردة!

ـ2ـ

بقلم : د. حسن حميد

 

أبدأ بالحديث عن هذه الرواية (المربع الأسود) منذ عتبتها النصية الأولى المتمثلة في العنوان /المربع الأسود/ الذي يبدو عنواناً تجريدياً تشبه تعبيريته تعبيرية عناوين اللوحات التشكيلية أو القطع الموسيقية، والحق أنه ومن دون الغوص في أعماق النص وراقاته سيبدو العنوان كذلك، لكن ما يتكشّف عنه النص من أبعاد ظاهرة ومخفية يشير إلى أن العنوان شديد الواقعية والتمثل لكل جولان النص في أحداثه وأخباره، ولكل ما تاق النص إلى قوله وإضماره، فهذا العنوان (المربع الأسود) وبعيداً عن صفة (السواد) يتألف من المرأة كضلع أول أساسي، ومن المجتمع كضلع ثانٍ، ومن الأحلام كضلع ثالث، ومن السياسة كضلع رابع يتمم تربيعة ما يريد النص قوله والحديث عنه، والنص، وعبر روح إشراقية عالية في الدلالة، يتوهج وهو يتحدث عن هذه الأضلاع الأربعة، فيقول صراحة إنها تشكل حصاراً متيناً للمرأة، وتشكل سياجاً لكل الدوائر التي تحيط بالمرأة، والمجتمع، والأحلام كشرنقة، أما الضلع الأخير (السياسة) ففيه تكمن الشرور حين تغيب المعايير الآتية من القيم النبيلة.

لقد ضيّعت العادات والتقاليد حقوق المرأة، وبددت جمالصورتها، لأن العادات والتقاليد قامت بدور (السياسة) في تشويه حضور المرأة اجتماعياً، والمجتمع نفسه ماتت الكثير من أطرافه وجوانبه بسبب حمق (السياسة) وطيها لكل نبيل، والأحلام قلَّ وهجها إلى حدّ الترمد بسبب تجاهل (السياسة) لها، وعدم تقديرها بوصفها شوقاً من أشواق الكائن البشري، والكف عن شق الدروب أمامها لتصير وقائع تعيشها المرأة ولو على ندرة.

هذه الرواية /المربع الأسود ومنذ صفحاتها الأولى، وسيراً نحو نهاياتها المتعددة ووصولاً إلى خاتمتها، تحاول أن تفكك مفاعيل الضلع الرابع (السياسة) لتبدي ما فيه من إعوجاج والتواء من جهة، ولتجعله نافذةً مشرّعة للتعبير من جهة أخرى كيما تطلّ المرأة منها لترى جمال الحياة بعينها هي لا بالعين الذكورية، ولتتذوق طعومها بلسانها لا بألسنة الآخرين، لكي تطل المرأة أيضاً منها لترى (المجتمع) عادلاً ولو في فضاء من الوهم.

***

رواية /المربع الأسود/ تدور حول المرأة بوصفها فرداً جوّاباً لكل شؤون الحياة وأحلامها في آن، وبوصفها المعوّل عليه لكي يتخلص المجتمع من ترهله الذي يبدو مثل كريهة، ومن ظلموته الذي يشبه دموية جارية، ومن عاداته وتقاليده التي هي أوحش من الزنازين، ومن انتظاراته الطوال ذات الثقل الأليم! وتكاد المرأة في الرواية /المربع الأسود/ تكون العلامة التبادلية الحاضرة في تحالفيةٍ ذات صور مختلفة مع المجتمع، والسياسة، والأحلام؛ فالمرأة في هذه الرواية هي الراوية، والضحية، والحالمة، والكاشفة عن مواضع العطب التي تصيب النفس والمجتمع والحلم في آن، والمرأة في الرواية هي الروح المتجددة الناهضة على الرغم من أحزانهاالمتكاثرة، وسقطاتها الولود، وحالات الترمد التي عاشتها رغم أنفها، وهي الصوت الراج /المدوي/ المنادي بأن المرأة كائن فردٌ وليست كائن أنوثة فحسب، والنظرة إليها على أنها أنثى هي نظرة قاصرة، نظرة لا تعرف المرأة على حقيقتها، ولا تؤمن بقدراتها وحيويتها، نظرة تشلُّ المرأة وتجمدها لتظلَّ في دائرة السكونية والتلقي والتهميش، ولا تجوز بها إلى دوائر أخرى كي تظل المرأة ملحقة بعالم الذكورة، وتابعة لكل ما تراه العين الذكورية، وما أوجدته من أحياز العادات والتقاليد والتصورات والأعراف المقيّدة للمرأة، والمعوّقة لها.

***

تبدأ الرواية (المربع الأسود) للأديبة العراقية بلقيس حميد حسن بلعبتين أساسيتين، الأولى هي لعبة المكان عبر تعدديته ومناقلاته وما فيها من مضايفات، والثانية هي لعبة الزمن عبر ترادفه، وتقادمه، وموات الذواكر البشرية التي لا تريد ارتطاماً بما ينعشها أو يجددها، ومن خلال هاتين اللعبتين المكانية والزمانية، تمر الذات القارئة بالمرأة لترى مفاعيل المكان الظالمة لها من جهة، ولترى عطالة الأزمنة وانسحابها من عالم المرأة من جهة ثانية، كما تمر الذات القارئة بحقول السياسة العربية وما اتخمت به من عهود ووعود وأمنيات، وما كشفت عنه من أذيات وإتلاف لكل طموح ورغبة، وما أسقطته من قناعات، وما ازورّت عنه من حقوق، وما غرقت فيه من شرور وظلمات طالت الفرد والمجتمع بما لا يليق بهما! أما الضلع الثالث /الأحلام، فهو، وكما يقول أهل الفلسفة، صار حدّاً مرفوعاً، أي حالاً غائبة، أو لنقل صارت الأحلام أشبه بالخرافة حين تتحدث عن الحقوق، والمعاني، والحاجيات الضرورية التي لا تستقيم حياة الإنسان من دونها.

لعبة الأمكنة، وما فيها من روغان جلي، تكاد تكون الشاهد الأوفى على أن الحياة لا تصفو، ولا تصير حياة مشدودة إلى القيم والأحلام على الرغم من تعددية الأمكنة، فالتعددية، وبوجود الظلم والأسئلة الكواره، هي حال قشرية، لأن الظلم كائن خرافي محمول في النفس، والخلاص منه بتعددية الأمكنة وهم، بل هو وهم مركب، إن تبديل الأمكنة، والاحتماء بها هما التماس للنجاة بالجسد، أي تحييد الرأس عن المقصلة ولو على نحو آني وطارئ، بينما يظلّ الظلم حمولة هائلة تقلق الذاكرة وتشلّها وتصبغها بالحيرة الغامقة.

فالمرأة في رواية /المربع الأسود/ وعبر أسمائها المتعددة، وعبر أعمارها المختلفة، تغادر مدينة بغداد فراراً من ظلم سياسي قاهر وقع عليها لأن الفكر والتفكير المتاحين مبوّبان، ولهما مجرى واحد، والمرور به إجباري وأكثر، وأي خروج عن تعليمات التبويب، أو مغادرة للمجرى الواحد، توقع المرأة (في الرواية والواقع معاً) في مملكة السؤال: لماذا؟! وليس من دائرة إرهاب وإماتة وخوف مثل دائرة هذا السؤال: لماذا؟!

في المكان الأول، عادةً، أي مكان الولادة حيث هو البيت، والأهل، والأصدقاء، والمدرسة، والعادات، يكبر المرء (والمرء في الرواية هو المرأة) فتتعدد الحبال التي تشده إلى كل شيء، وإن كان هذا الشيء نافلاً، تماماً مثلما تشدُّ الجذورُ أشجارها إلى عالم الثبات والبقاء والحضور، ومع ذلك تأتي رياح السياسة، وهي رياح سموم في الأغلب الأعم لكل من خرج على قيدها المحدد/المبوّب، لتقتلع الإنسان، الذي هو زينة الدنيا، من أرضه لكي ينجو برأسه المهدد بالقطع. فصول لاهبة تتقاطر داخل عالم الرواية /المربع الأسود/ وفيها خليط عجيب من محبة المكان، والخوف من سياط السلطة، ومن صور العشق النادر لبغداد/الوطن والروح، وأحزان غامقة ترّسبها ليالي الاختفاء والتواري عن عيون العسس حتى تصبح أثقل مما تقدر النفس على احتماله، وأحوال ومتغيرات تجريها الذات المهمومة كي لا تقع في أفخاخ السلطة وأشراكها، فتتبدل الأسماء من ثابتة إلى متحركة، وتتغير الشخصيات من واقعية إلى وهمية، ومن حاضرة إلى غائبة، كما تتغير البيوت، ومطارح النوم، والأحياء، فتصير الغربة داخل الوطن كابوساً معلقاً بالخطوات، والقولات، والرغبات والمخاوف، وحين ينجو الجسد باجتيازه للحدود، تتجلى غربة الروح المركبة، وتبدو المقارنات بين مكان وآخر، وحال وأخرى، وتصير الحياة كتلةً من حنين مدمّى، وتصير الأحاديث والذكريات حرائق لا تعرف معنى الانطفاء.

وتتعدد لعبة المكان وتتوالد، لأن المرأة السومرية المنتمية للحزب الشيوعي العراقي تهرب من بغداد، دارة روحها، عبر جواز سفر مزوّر، وباسم حركي، وروح موجعة، وتأتي إلى دمشق تقفياً لدرب زوجها الشيوعي الهارب أيضاً، لتعيش الحضانة الاجتماعية الدافئة لدى معارف الرجل الشيوعي (موريس)، والأسى اللغوب الذي اكتوت به حين عرفت أن زوجها ليس في دمشق، فقد اجتاز الحدود السورية إلى لبنان، ليعمل مع المقاومة الفلسطينية، وبذلك تحيط بها دائرة جديدة من الانتظار والقلق على المصير، صحيح أنها الآن في أمان، ولكن من يوقف شلال الأسئلة، ومن يبدد الحيرة التي اتسعت حتى صارت ساحات للتعذيب النفسي حين علمت أنها بحاجة إلى أوراق رسمية تخولها اجتياز الحدود!في دمشق، تحدق السومرية /الشيوعية الهاربة من بغداد في مرآة الأمس، لترى كيف اجتازت الحدود عبر مركب من الخيال والخوف، ولتعي كيف تحولت إلى كائن من الانتظارلاجتياز حدود أخرى باتجاه لبنان كي تلحق بزوجها، لعل ما تبقى من الطمأنينة لديها، وما تبقى من الطمأنينة لديه..يبعدان تدفاق الألم والحزن القديمين /الجديدين معاً.. لأن بغداد /المكان والوطن نأت أكثر؛ وكل ما هو حميم صار ضباباً أو يكاد، ولا تتوقف لعبة المكان بل تتعدد دوائرها أيضاً، حين حدث ما كان جارحاً وثالماً للحياة والواقع والأحلام فوق الأراضي اللبنانية، أعني الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وما تلاه من عقابيل هائلة في حمولتها الدموية وأبعادها الوحشية، ولاسيما ما جرى في مخيمي صبرا وشاتيلا، حيث قُتلت النساء، وقُتل الأطفال، وقُتلت النهارات، فهجع الجميع في موتة واحدة وبسطوة السواطير الراعبة، داخل البيوت، وعلى الأبواب، وفي  غرف النوم، وتحت الأدراج،.. ولم يتبقَ ما يدل على فظاعة الجريمة سوى سواقي الدم الجارية، وروائح الأجساد التي فسّختهاالحرارة العالية، والخرس العميم الذي جعل من المخيمين /صبرا وشاتيلا/ مقبرةً كبيرة تحيط بها بعض الأشجار، وبعض الهمهمات والنهنهات الأخيرة من بكاء كان.. طويلاً وأسود؛ ثم تتسع دائرة المكان وتتعدد، فتذهب السومرية /الشيوعية في درب آخر للغربة، فتحصل على لقب لاجئة في بلاد الغرب، بعد أن تقاسمت لقب اللجوء مع الفلسطينيين في العمل، والمكان، والشعور، والحلم، لأن الجروح، في أوقات الشدة والأنين، تتساند، بعضها يسند بعضها الآخر.

إن انفتاح لعبة المكان وتعددها ومناقلاتها أكسب الرواية غنى وافراً لرؤية الذات المنكوبة وطنياً كيف تحلّي مرار الأمكنة التي صارت إليها بالمعاني، وإن كانت المعاني الإنسانية بعيدة ومهجورة، وكيف تأخذ الأمكنة شيئاً من جمال الروح استلالاً مرة بعد مرة، فيبدو الغريب غريباً تماماً من جهة، والمكان الطارئ يبدو مكاناً طارئاً تماماً من جهة أخرى.. فتصير الدنيا عالماً من الوحشة القاتلة!.

إن عين الكاتبة بلقيس حميد حسن، عين شديدة الاستحواذ على كل الحواس والانتباهات الأخرى من أجل أن ترى تفاصيل المكان الحميمة لتعقد وإياها اتفاقاً للمساكنة والهدأة والطمأنينة المشتهاة.. كيما تبدو الأشجار أشجاراً، والطيور طيوراً، كي لا يغيب ما هو واقعي ومحسوس في عالم رجيم لا ماهية له ولا حدود.

إن جماليات المكان الروائي في /بغداد ـ دمشق ـ بيروت ـ لاهاي/ هي جماليات لا تراها سوى ذات احترقت بنيران الغربة حتى صفت، وبدت، ودنت.. لتعود في مسار من الحلم والشوق إلى المكان الأول، المكان الأحب، وكأن تعددية الأمكنة لم تكن سوى شغب طفولي ليس إلا.