لوحة لم تؤطر بعد
بلقيس حميد حسن
حينما تأتي الهدية مفاجأة وعلى غير توقع، تسعدنا أكثر، فكيف إذا تتلقى هدية من فنانة أصيلة التقيتها ليومين فقط، فتختزل المحبة الزمن والعادات لتصبح قريبا منها كما هي قريبة لك. اللوحة التي سأتحدث عنها قدمتها لي الفنانة التشكيلية العراقية فادية عبود مشكورة، وجاءت اللوحة جديدة، آتية من الوطن بكل رائحة الرافدين والنخيل والتأريخ العريق وبكل حنان العراق الذي افتقدته منذ أربعة عقود. جاءت اللوحة بألوان نخيل العراق، أبواب بيوته العريقة، زجاجهُ المعشّق بالزهو الشرقي الساحر، بروح فنانة هادئة الطبع مع الناس، سلسة كما لوحاتها الممتنعة عن التقليد والتشابه مع سواها. المبدع بصمة مميزة لايخطئها العارف بالابداع، وفنانتنا لها بصمة تذكرني بالطفولة، بأسيجة المدارس، بأقواس إيوانات وشبابيك بيت جدي العتيق. بالحياة الهانئة بأزمان مضت، حيث دجلة والفرات يتنافسان على العطاء ويرويان أراضي وطن سميت أكثر مساحاته بسواد العراق لكثافة نخيله، تذكرني لوحات المبدعة فادية بطِوال النخلات، وذلك الفلاح النحيل الذي يتسلقها في المغرب بكرسي مخصوف من النخلة نفسها، صاعدا شاهقها ليأتي للناس بالرطب اللذيذ، جنيا لذيذا حلالاً. الله يا أجواء تلك اللوحات. ويا لذكرياتنا التي لاتنتهي ولا تصمت في أرواحنا حنينا لماضٍ يوجعنا غيابه وانطفاء شمسه.. سرتُ بأجواء اللوحات، فأعادتني لمدينتي الأولى ، نعم عدت الى سوق الشيوخ، لأزقتها الضيقة الآمنة، تلك الأماكن التي كم لعبت بها ولم أتعب، تلك الأسيجة العتيقة، والطابوق المرصوف بطريقة تترك لك مساحة الخيال بين كل طابوقة وأخرى، وكأن الحائط يقول لك هذه هداياي لك فما هي هداياك لي؟ كيف للوحة أن تسحبني من القلب شاطبة على أربعين عاما من الغربة! هل هي روحي الغريبة التي تتمسك بقشة توقد الحنين من جديد كلما مضى الزمن! هل هي أنا المنهكة من الفقد التوّاقة للأهل والوطن والحياة! لم تكن اللوحة الجديدة غير المؤطرة تلك بالنسبة لي إلا وقيدا دافقا بنار الشعور بالخسارة، فالغريب مهما نجا من الموت ومهما كانت حياته أفضل تبقى لديه مرارة الخسارة أبدا، خسارة الوطن والذكريات وملاعب الطفولة، وهذا الذي يستحيل تعويضه في كل الكون الفسيح.. طفتُ في كل حركة ريشة بتلك اللوحة الوطن، دققت كل لون فيها، تسلقت السياج والنخلة ونوافذ بيت جدي فبكيت، استحضرت من خلالها كل من فقدت من الأحبة، وشبّ بروحي لون النخيل، صار لون اللوحة يتغير في عيني، وصار لون سعف النخيل أكثر طراوة، وأبهج خضرة، وكأن به ندى، نعم، رأيت الندى الذي طلع من أحلامي وروحي المتشظية بين البلدان بلا وطن، هل كان طوافي بلوحات الفنانة ذهابا للوطن الذي أعشق والذي أرى أحزانه تزداد وتتعتق يوما بعد آخر؟... شكرا للفنانة فادية عبود التي أحيت بلوحة واحدة كل العراق الكبير بقلب غريبة مثلي، وحملتني بريشتها الى أعز البقاع بروحي.. شكرا لفنها العريق وروحها الطافحة بالمحبة.. 28-6-2019
|