نافذة

روناك شوقي وسلوى الجراح تمنحان المسرح جرعة حياة مضيئة Print

روناك شوقي وسلوى الجراح تمنحان المسرح جرعة حياة مضيئة


بلقيس حميد حسن


يوم 22-10-2017 وبدعوة من جمعية النساء العراقيات وعلى مسرح لاك في مدينة لاهاي قدمت مسرحية كان يا ماكان بجمهور حاشد تلقّى العرض بالإعجاب والتصفيق ..
على خشبة المسرح( أبو الفنون ) نرى بيت نجمة عجوز كانت قد غنت وكتبت شعرا ورقصت وأعطت الكثير بشبابها ، وها هي الآن بعد أن مضى عليها الزمن، وغاب الشباب حيث انطفأ بريقها إلا من الذكريات.
الصراع الذي تعيشه تلك الشخصية كان طاغيا عليها، جرفنا معه لندخل عوالمها الشائكة وتاريخها الغامض والمكشوف معا، قادنا صراعها النفسي الى داخل أرواحنا فرأى ولمس كل فرد منا وجع هذه الشخصية المذهلة بتناقضاتها وترددها وحيرة يومها التي تربك من عاشت معها أربعين عاما تسمع ذات الاسطوانة المشروخة من التداعيات والبكاء على أطلال شباب ذهب ولن يعود..
لقد أدت الفنانة المبدعة روناك شوقي تلك الشخصية بشكل مذهل جعلنا نتفاعل معها بالدموع أو الضحك المر ، لقد أذهلتنا بحركاتها، تقوس ظهرها بانحناءٍ مدهش أدته وكأنه حقيقي، ارتعاشاتها ، صوتها البعيد الآتي من الماضي ، نزقها المكسور تارة والمنفلت تارة أخرى، ذكرياتها التي تدق عليها وتعتصرها المدن غير الفاضلة التي تراها غير ما كانت تريدها وغير ما انتظرت بعد كل ماقدمته من فن وتنازلات وأحداث مرت عليها ساحقة اياها عبر السنين لتخلفها كومة لحم منسي لايصلح لشيء سوى التذكر، مابقي منها كائن مضى، لايستطيع أن يحدد ماذا يريد، تتوالي عليها الأفكار والرغبات المحطمة في السابق، تحاول أن تقرر شيئا لكن ضعفها الروحي وضعضعة إمكاناتها لاتؤهلها للإمساك بماذا تريد حقا، فتارة تنوي تكوين أسرة، ناسية انها قد شابت وليس باستطاعتها الآنجاب، وتارة ترغب بأن تعشق وتحلم بحبيب وسيم يسبح مع نزقها ويسعدها لكنها تتراجع مستنكرة ذلك وكأنه جرح نكأته الكلمات فكاد أن يسقط من حافة الكون إن توقفت عنده .
المرأة المبدعة في مجتمع شرقي فنانة كانت أو أديبة أو أي دور بارز تؤديه ويسلط عليها الأضواء تكون حتما هدفا لتخلف العقليات والموروثات والتقاليد البالية التي باتت حجة تشهر بوجه تلك المرأة لتتعذب، وليتم استغلالها، وشراء ضميرها أحيانا وتحطيم روحها الزاهية بالعنفوان والرغبة في الصعود الى الأعلى .
سأحمل لافتة وأثور على الأغنياء الذين يتركون الأطفال الأيتام بلا مأوى 
لا أريد الصلاة فالله يرانا ويرى خراب القيم ولن يفعل شيئا إذن لا أريد أن أرى سجادة الصلاة ولا أريد أن أصلي أبدا فأين هي المدن الفاضلة؟
لا أريد أن أعشق فكل من عشقت خذلني أو طعنني بالخيانة .....

هكذا كانت تقضي يومها بتناقضات الأفكار والرغبات غير المتحققة، رغم أن هناك من ينظر لهذه الشخصية المكسورة على أنها مذنبة وامرأة انتفعت بسني حياتها وكانت إمرأة لاهثة وراء المصلحة والشهرة وهي نرجسية مريضة حتى أنها لاتستحق التعاطف معها وبأنها مخطئة وغير محقة فيما تقول وتتذكر وتناقض نفسها به. لقد عكست المسرحية هذا الرأي من خلال الشخصية الأخرى في المسرحية وهي فيروزة التي تخدم تلك العجوز منذ أربعين عاما وتناقشها بكل أخطائها وتحاول أن تحد من جموح نزقها أحيانا .

لقد قدمت الاعلامية المتميزة والأديبة سلوى الجراح شخصية فيروزة باداء رائع كان متناغما مع الشخصية الأخرى ومتوائما معها تماما حتى شكلتا فريقا تكاملا على المسرح منحنا متعة كبيرة وتماهياً مع الشخصيتين ، وفيروزة هي التي خدمت ذلك البيت منذ سني شبابها الأول، متحملة كل انكساراتها، ونزواتها النفسية وكانت تحفظ كل كلمة أو بيت شعر أو مقولة أو أغنية رددتها الفنانة العجوز وترددها معها أو تكملها لها ، ولم تكتف فيروزة بدور العبد المطيع للسيد إنما كانت تناقشها بأخطائها وتقف لها بالمرصاد حينما تشط بالشعور بالغبن والظلم.
كانت فيروزة تريها حقيقتها أحيانا فتنفعل العجوز مطلقة نرجسيتها الأخيرة اليائسة من الحياة ومافيها والرافضة للانسجام مع البشر ورؤيتهم.
أحيانا يشعر المرء برقة فيروزة حيث تستمع وتصبر كل هذه السنوات لذات الكلام، وذات النمط من الحياة وتخدم تلك المرأة بوفاء، وأحيانا أخرى يراها قاسية جدا حيث تواجه العجوز التي لاحول لها ولاقوة على تغيير شيء من ماضيها فتهب بوجهها صادمة إياها بحقيقة مواقفها غير المبدأية والمنحازة للمصلحة، والمال، والشهرة التي تمتعت بها العجوز سنوات ألقها وشبابها وكأنها تريد إيقاظها من غفوة الكبر ورذالة العمر لتحاكم نفسها على سقطاتها الأخلاقية .
إنه صراع نفسي دائر في ذلك البيت ( المسرح) والذي يجعلنا بتركيز دائم إذ تشدنا حياة تلك المرأة بالكم الهائل من المفاجآت السارة والانكسارات الموجعة التي نراها الآن .
الجميع يعتقد ان النجمات سعيدات وعندما يفتح البوم أسرارهن وحياتهن الشخصية يتفاجأ بتلك الفوضى التي اعترت حيواتهن وذلك الوجع الذي أخفينه طوال حياتهن.
ومهما كانت المرأة مشهورة أو مغمورة فبمجتمعاتنا الذكورية تلقي عليها ستائر الموروثات قهرا إضافيا وإن كانت بمفهوم العالم كله سعيدة ..
لقد أرتنا المسرحية دواخل المبدع المنيرة تارة والمسحوقة تارة أخرى والثعلبية في بعض الأحيان التي تضطره للتعايش مع مجتمع لايفهمه بعمق ولايتضامن مع غرائبيته حينما يخرج عن نسق الحياة التي اعتادها الناس وفرضوها على الجميع ، الإبداع خروج عن المألوف وهذا مرفوض في غالب الأحيان لدى الجماهير التي تفرض على الجميع نمط واحد.
لقد استمتعنا كثيرا بتلك المسرحية التي منحتنا بعض الثقة بالمسرح العراقي الذي يقاوم كل الحروب والأفكار العتيقة ليبقى، ويقدم شيئا للناس كالندى لدنياهم الظامئة ، القاحلة ..
شكرا للمبدعتين روناك شوقي وسلوى الجراح وشكرا للمضيفين وجمعية المرأة الذين منحونا فرصة الاستمتاع بالمسرحية ..

4-11-2017