نافذة

هروب الموناليزا..الفن الروائي وسيلة جدلية في البحث عن حرية المرأة. Print

هروب الموناليزا. الفن الروائي وسيلة جدلية في البحث عن حرية المرأة..

جاسم المطير

حين قرأتُ كتاباً عنوانه (هروب الموناليزا) انسابت فكرة الحرية امامي، عبر هذه الأقوال التي تحمل كثيراً من المعاني والحركات الكامنة لدى كتاب وكاتبات قادرين على تقريبها ،حياتياً، بالشكل والمضمون في قالب روائي. تردد أمامي سؤال: إلى أي الأنواع من الحرية تنتمي هذه الرواية..؟
أدركتُ خلال قراءتي تفاصيل ملازمة لمكان جغرافي اسمه (العراق) ليس فيه، لزمن طويل، غير قوة القهر والظلام . فقد جسدت رواية عنوانها ( هروب الموناليزا) بعض مظاهر هذه القوة وقد خرجت وقائع قهرية متنوعة من صوان ملابس امرأة طــُـــوّح بها ذليلة فوق سرير زواج ، او امام شرطي من حرّاس السلطة الحاكمة ، او في زنزانة تعذيب مظلمة في ظل سلطة غاشمة، او وسط معاناة نساء هجرن رجالهن او عشاقهن او في حال شعورهن أنهن لسن سوى خادمات فاضلات في احسن حالات الزواج, أو من حرّاس الحدود عند محاولة الهرب من ظلم وظلامة بلادها.
حمل الكتاب طاقة ابداعية – سردية كامنة لدى المؤلفة بلقيس حميد حسن المعروفة بغريزتها الشعرية الفنية ،التي مزجت بين واقعية المفردة الجنسية – الغزلية مع المفردة السياسية – الاخلاقية في شعرها المعروف بأسلوبه الملـّـون بالخيال الانساني ، بميزة كتابة نسائية منمقة ، صادمة وجهاً بوجه، حاملة مفارقات ممتعة، بلهجة هادئة أحياناً وبنماذج ذات صوت عال ٍ يستفز أسماع أو عيون القراء في أحيانٍ اخرى .
بدأت الصفحات الأولى من كتابها بحالة (خوف امرأة ) وانتهت الصفحات الاخيرة بالخوف من جسم اجتماعي كبير اسمه الوطن. قامت في وطن هذه المرأة علاقات منحرفة ضالة منبعثة اساسا من الصورة المنحرفة الضالة لسيادة الذكورية الشاملة ، بسيادة حق الرجل في ممارسة اساليب البرابرة لفرض ارادته على انثى ، حتى غدا كل كلام رجولي موجه الى اي امرأة ، بمنزلة أمر مطلق متجدد عبر العصور ، ما عليها الا تنفيذه في البيت ، الذي تعيش فيه وفي الدولة التي تنتمي اليها، حيث نرى صورا متعددة من حقائق جاءت بها وقائع هروب الموناليزا . هذا الهروب بشكله المسرد في الرواية برهن على فقدان (وحدة وجود العائلة) مثلما برهن على انعدام (وحدة وجود الوطن) ، طالما لا تتوفر فضيلة الحرية وعدالة الحرية وصداقة الحرية . صوت المرأة العراقية ما زال مخنوقاً حتى اليوم . ما زالت هي نفسها تميل الى الركون وراء الرجال لإيصال وجهة نظرها في الحياة، او تقديم عروض صريحة عن طريق الصحافة ،او ضمن النتاج الروائي والقصصي والمسرحي وغيره. لذا فأن نصيب المرأة في نجاح صوتها او اخفاقه كان وما يزال مرهوناً بالرجل الفرد وبمدى سعة افقه او جدية فلسفته .
منذ اكثر من نصف قرن كان الصدق الكامن في صوت المرأة العربية عن معاناتها الانسانية الكبرى وعن رتابة حياتها اليومية الكالحة لم نكن نحن أبناء ذلك الجيل نتخيله إلا من خلال صوت ام كلثوم بكونها واحدة من النساء العربيات اللواتي استطعن ايصال صوت المرأة التابعة وصدقه عن طريق الغناء والموسيقى ، بما تضمنه صوتها واغنياتها من قدرة على ايصال رسالة إلى جماهير واسعة ، رجالا ونساء ، من خلال نجاحها في تكوين امة عربية من السامعين للأغاني والموسيقى ، خاصة وأن السامعين والسامعات لنداء الحرية في العالم العربي قليلون .
في خمسينيات القرن الماضي كنا نحن الشباب ، في العراق والعالم العربي كله، نجد حقيقة التطلع التقدمي للمرأة الغربية من خلال الافلام السينمائية، الأميركية والأوروبية، ومن بلدان أوروبا الاشتراكية ،ايضأ حيث كان بعضها يحرّك عندنا الكثير من الاسئلة الجمالية والايديولوجية والانسانية عن مستقبل حرية المرأة الشرقية وحقوقها ، مقارنة بحرية وحقوق المرأة الأوروبية عموماً.. كان نص واخراج وحوار وتصوير وموسيقى أي فلم يمجد مكانة المرأة ودورها النضالي يدفعنا الى الاتساق والتماسك معه . كان فيلم (الباحثات عن الحرية) بطولة داليا البحيري وهو انتاج مصري – فرنسي أخرها في الألفية الثالثة نتاجاً فنياً أثار الكثير من أسئلة الحرية. ها انا اليوم بعد قراءة السرد الذكي في (هروب الموناليزا) اجد نفسي داخل الواقع الموضوعي لرواية عراقية عن (الحرية) أقول عنها كلاماً سريعاً.
اهم قضية في (الفن الروائي) هي قضية (البطل الروائي) وقد قال الناقد الادبي الماركسي جورج لوكاش عن ضرورة أن يكون هذا البطل شخصية أنموذجية . في حين اهم شرط من شروط رواية (السيرة الذاتية) هو الوعي بـ(الحرية الذاتية) أولاً واخيراً للتعبير عن رؤية محددة للعالم المحيط ، مما يستوجب التجسيد الروائي بالتفاصيل الوافية عن الوضع الاجتماعي، والتاريخي ، والبيئة الاقتصادية، والوضعية السيكولوجية، والظروف السياسية كافة .. فهل استطاعت بلقيس حميد حسن في كتابها هروب الموناليزا أن تقدم عملاً كتابياً استثنائياً تخضع فيه لانضباط السرد الروائي او لانضباط سحر السيرة الذاتية ..؟
لا شك انني استطيع القول انها تجاوزت (مراحل الارتباك السردي) وهي اخطر المراحل التي يمر بها كل كاتب روائي، خاصة الكتــّـاب الذين يروون لقرائهم اعمالا من مدرسة (الواقعية المأساوية) بما تحمله من علاقات حب، او قتل، او عذاب، او نجاح، او فشل ، في نظام الغابة السائد ، مثلاً، في عراق 1968 – 2003 حيث دُمج المجتمع العراقي دمجاً كلياً ، داخل حزب واحد ، يقوده رجل مستبد، يملك وحده زمان السلطة والسطوة على الرجل والمرأة في آن واحد. حتى في ظروف اجتماعية مغايرة ، كهولندا مثلاً، حيث تفشل مطامح (الزوجة الثانية) بطلة رواية الموناليزا الهاربة من العراق بالحصول على انفراد رابطة العلاقة الجنسية مع زوجها المقيم في هولندا ، الذي كان جوهره الشرقي يجعله يرى في الزوجتين، الأولى والثانية، مجرد خادمتين لمتعته . هناك مسألة روائية تحتاج الكاتبة فيها الى رفع كل الاقنعة والخفايا عنها ، أعني بها تبعية المرأة الجنسية لرغباتها الحالمة باحتكار رجل، حتى ولو كانت زوجة ثانية أو ربما ثالثة أو رابعة كما طرحها مسلسل مصري عنوانه (عائلة الحاج متولي) حيث تبعية الزوجات الاربع لزوجهن الواحد ، القوي بثرائه المالي، أمراً محتماً. انها قضية معقدة من المستحيل تناولها روائيا من دون تحليل العلاقة بين الواقع الاجتماعي والوهم الجنسي.
سعتْ بلقيس حميد حسن بصوت عالٍ لتوكيد مكانتها الخاصة وخطابها السردي الخاص، حيث صنعت لقرائها صوتا من اصوات صادحة للاسهام في تغيير ايجابي لواقع المرأة العراقية بقصد تأصيل الوعي بـ(حق المرأة) وتوسيع مدارك (الذات الأنثوية) بكتاب حاولت فيه المزج في صفحاته بين بعض مواصفات السيرة الذاتية و بعض مواصفات الخيال الروائي . جاء في صفحة 3 (ان الرواية هي فصل من سيرة ذاتية للكاتبة ولنساء عرفتهن في طريق الحياة) . بمعنى انها انتمت مباشرة الى مرجعية نسائية جديدة لا تقلد صوت ام كلثوم فحسب ،بل انها نحتْ منحىً واقعياً نحو البحث عن (ذاتية الأنثى) والدعوة بنوع من سرد مدهش ،جريء وصريح، الى مزايا هذه الحرية ، التي لا يفهمها الكثير من الرجال، سواء كانوا حمقى أو واهمين وُضعوا بعد صيحات ام كلثوم تحت المجهر المكبر بأعمال العديد من الروائيات ، العراقيات والعربيات، من مثيلات الجزائرية أحلام مستغانمي والمصرية نوال السعداوي والعراقية عالية ممدوح.. ترى هل تمكنت بلقيس حميد إضافة اسمها للمجموعة الروائية النسائية الجريئة التي تجتاز منذ جيلين او ثلاثة زمان الرواية النسائية التجريبية التي لم تتوصل حتى الآن الى ايجاد خط موحد أو متمكن لتوظيفه من اجل حرية المرأة العربية..؟

بصرة لاهاي16 – 12 – 2014

صحيفة

الصباح الجديد