نافذة

هروب الموناليزا» لبلقيس حسن.. الحب كمعركة .. عناية جابر Print
هروب الموناليزا» لبلقيس حسن.. الحب كمعركة

عناية جابر

السفير اللبنانية  23-12-2013
لا ترحمك بلقيس حميد حسن، ولا تُشفق. تبقى تجلدك في فهمها لأدقّ تفاصيل عشقك. غيرتك، النكران الواقع عليك وقوع الشيء الثقيل، شوقك الذي يُهلك الروح، ورغبتك التي تأكل في جسدك ولا تني تُدمّره. الكاتبة العراقية بلقيس حميد حسن في إصدارها الجديد عن «دار ميزوبوتاميا» بغداد ـ شارع المتنبي، تحت عنوان («هروب الموناليزا» بوح قيثارة)، تسرد فيه فصلاً من سيرة ذاتية لها، ولنساء عرفتهن في طريق الحياة، تطرح فيه فلسفة الحب إذا جاز التعبير، كما لو من خلال الإجابة، تريد أن تفهم العالم ككل. ما من غاية في سرد الكاتبة يتوخى إشباع حاجة علمية، أو تسجيل انتصار للمرأة على حساب الرجل، أو رفع تظلم ما بهدف الإنصاف، بل هو الشغف بمعرفة سرّ هذه الشعلة التي تتّقد بلؤم ورقة في آن، شعلة الحب غير المحكومة بضوابط عقلية أو معرفية أو ردعية حتى.
في رواية حسن، الحب غير محجوب بغطاء من الغموض، ولا يتخذ شكل القصص الميتافيزيكية. إنه العشق الذي من شدّته، يُسبب الفزع. العشق الواضح، الصريح، البلاكبرياء الكاذبة، الأسير، المرتهن، وشهيد صنيعة هذا السحر غير المحدد حتى اللحظة. سِيَرُ نساء كتبتها حسن، ودسّت في إحداها سيرتها الشخصية، وكلها جذرها الحب وسيدته المرأة في «جنسانية» تبدو كذلك في الشكل، لكنها في الحقيقة، تلك المعركة غير المتكافئة بين الرجل والمرأة على مدى العصور، ومنها الحب الذي يجذُبُه ويُرخيه الرجل، كما يفعل في أمور مجتمعية وحياتية كثيرة، ورثها عن مجتمعاته المتخلفة التي جعلت منه في النهاية، كائناً فصامياً، بارداً وظالماً. تقول حسن في تقديمها: «قد يكون هذا البوح ثقيلاً، متلوناً بلون ما تبقى من نارنا بكل لهيبها الحارق، أو غامضاً، طالعاً من سواد عتمة لا رؤية فيها إلا لبريق الدموع والعذاب. عذراً إن أقلقت راحة البعض بخلط هذه الأوتار وتوحيدها، كل حدث فيها حقيقي إلا ما كان عابراً في أوتار القيثارة. أكرر، لست كاتبة رواية، وقد لا أجيد فنها، إنما أنا امرأة تبوح بما عانت وعانين من عرفتهن لا أكثر، أردت أن تروا حياتكم وحياتنا من أعماقها لتعرفوا ماذا صنعتم بأيديكم».
من نسيج الحياة، الغامض والفوضوي، حاولت الكاتبة أن تداعب حبل العلاقات الغرامية الصافية. بلقيس حسن قدّمت في أغلب قصصها في «هروب الموناليزا» مونولوجات جويسية (نسبة إلى جويس) تقريباً، لتُعيد بناء النسيج الدقيق للحب، لتبيّن لنا الرحلة الانتحارية للنساء اللواتي خضن هذا الفخ الرهيب. ثمة عند العاشقات، بطلات رواية بلقيس، ذلك الحس الضعيف بالواقع، الذي تفلت منه أسباب الأحداث، فنراها خارج قربها من الحبيب، على صلة معدومة بالعالم الخارجي، الذي يبدو مموهاً وغير مُدرك ومنعدم السببية، ما دام «الحبيب» ليس فيه.
لا بدّ من أن نقرأ بلقيس حسن، بعناية وبطء، ونتوقف قليلاً عند هذا «الجنون» أو الحب، بلا منطقه ومعقوليته معاً، حيث تصنع منه الغربة، غربة العاشقة في إقامتها في بلد غريب، جنوناً كاملاً بالآخر ـ الحبيب، لندرك أن نظاماً خفياً، سرّياً ومضاعفاً من عواطفها، يُفاقم هذا الحب ويُشظيه.
تختار بلقيس حسن، لبطلة إحدى قصصها وتُدعى سومر، موتاً فجائعياً كما لو أنها تُعاقبها على غرامها الكبير، بذلك الرجل الوسيم الخؤون، الذي تكشّفت حكايتها معه، عن أضاليل وزيف، تهدّمت إثرهما كل عذوبة ذلك الحب، وانكشفت مع الوقت أكاذيبه التي ما كانت في الحسبان. تعاقبها بذلك الموت الفجائعي، لأنها ربما، ومع «انكشافه» المُذلّ أمامها، بقيت تُحبه وتشتاقه وتحنّ إليه. عاقبتها بالموت على حنانها. بالموت عاقبتها على مقدار غرامها الطويل الذي لم تنل منه الحقيقة ولم يُخفّفه الواقع القاسي.
كيف لميتة كتلك أن تفشل في إذهالنا وقلب مفهومنا «للحب» نفسه، وحثنا على مراجعة قسرية لدفق عواطفنا وتهوّرها. إنها مع ذلك لا تذهلنا، لأننا في خضم الحب، لدينا حس ضعيف بالواقع، وفي الجو غير المُبرر للرموز، فهذه الميتة في شكل تشظٍّ من متفجرة أطاحت بسومر وبابنتها، تُمثّل الحياة بالفعل، حياتنا العربية الراهنة. موت عاشقة محكومة سلفاً (بالإعدام الرمزي) يجذب انتباهنا ويوقظ عواطفنا وبصائرنا، إلى ما آلت إليه أحوالنا، وينتج قوة رمزية أقوى، ضد الحب، وقوة رمزية أقوى وأكثر قتامة ونفوراً، ضد الحياة نفسها.

عناية جابر