نافذة

هروب الموناليزا.. بوح عن - هروب الموناليزا – بوح قيثارة- Print
بوح عن - هروب الموناليزا – بوح قيثارة-



سامي المالح



أشياء كثيرة، يصعب تشخيصها بدقة وتسميتها بوضوح، تتراكم، تتداخل وتفعل فعلها في حياة فتاة تولد في سوق الشيوخ، تترعرع في كنف عائلة مغرمة بالشعر والكلمة الساحرة. يقدر لها ان تعيش طفولتها وثم بلوغها وتكوين شخصيتها وتطورها الفكري، والعبور الى محطة التعبير عن الذات والحلم ، في مرحلة صعود الدكتاتورية وخنق الحريات وتكبيل عقل الفرد وعسكرة المجتمع وانزلاق العراق لمتاهات الحروب والدمار والخراب.
ربما حب الناس، ربما الحلم، الشعر، العشق، أو ربما التمرد على الواقع والقيود التي كانت تكبل أجنحتها، دفعها، مبكرا لأختيار الأصعب. ويترتب على ذلك الخيار، كما تبوح قيثارتها، تلك الفصول المكثفة بالمعايشات والاحداث، الحبلى بالمعاناة والاوجاع والرحيل، والخوف والقلق. ويكبر الخيار، في المنعطفات الحادة متخذا صيغ مختلفة، لكنه يحافظ على ذات الاتجاه، ليبقى حتى النهاية خيار المواجهة بكل الوسائل و الادوات، خيار والوقوف الثابت في خندق الدفاع عن كرامة الانسان الفرد والانتصار للقيم الانسانية وتقديس الحب والخير والجمال.
تبرز بلقيس حميد حسن، مبكرا، في ميادين المواجهة، في الوطن وثم في كل البلدان التي احتضنتها ولم تعوضها حضن الوطن ودفئه. تبرز كشاعرة مبدعة جدية حكيمة وكريمة، كناشطة مثقفة ترفع راية الحرية والانسانية دون كلل عابرة حدود الايديولوجيا وأطرالانتماءات الصغيرة، لتنشد للوطن ولتبني جسور الحب والامل والاخوة والمساواة بين الناس.
وتاتي روايتها " هروب الموناليزا – بوح قيثارة" كتجربة أدبية جديدة للتعبير وطرح الافكار وأغراء القاريْ لولوج عوالم جديدة غير عوالمها الشعرية والنثرية الغزيرة. تخلد بلقيس بعنوان روايتها صديقتها "موناليزا" الشهيدة. وبالنسبة لي شخصيا يمثل هذا الاختيار شرفا وأعتزازا، لأنني التقيت موناليزا القادمة من الجنوب وعرفتها عن قرب وهي تختار التصدى للدكتاتورية بأرادتها وأيمانها وحلمها الباذخ ولتضحي بحياتها الغالية على قمة جبل بات أكثر شموخا بعطر شجاعتها ووفائها. وتأخذنا عبر اوتار قيثارتها لنعيش فصل من سيرتها الذاتية وفصول عن نساء عرفتهن في طريق الحياة، بأسلوب شاعري ممتع، متجاوزة الاساليب التقليدية في سرد الاحداث وبناء الرواية الكلاسيكية، لتبدع أسلوب بلقيس حميد حسن المتميز. وبعد ملامسة متأنية لاوتار قيثارة الكاتبة وجدت نفسي أمام موضوعات هامة تناولتها من زوايا متعددة، منها بعمق وتفصيل ومنها بعجالة. وبودي أبراز الموضوعات التالية:
- وضع المرأة وخياراتها في مجتمعنا.
- ازدواجية الرجل الشرقي وموقفه من المرأة والحب والجنس في المجتمع الذكوري.
- الخوف المكتسب وتأثيراته على حياة الفرد وبناء علاقاته وعالمه ومستقبله.
- الحب وعلاقته بالسعادة و بالقيم والاخلاق والخيانة والزيف والكذب.
- المرأة والفن وموقف العرب من المرأة الفنانة ومن الابداع والجمال.
- الغربة وأمكانية التأقلم والاندماج وموقع الوطن في روح وعقل الفرد المغترب.
تتناول بلقيس هذه الموضوعات بمستويات مختلفة، تتوقف عند بعضها بتمهل، لتسرد لنا بلغة شاعرية، على لسان سومر وعدالة وضابط الحدود والاطفال، تجربة حياة نساء وناس عاديين، في مجتمع تكبله القيم الدينية والعشائرية والذكورية وتنهشه تناقضات وصراعات أجتماعية وأقتصادية وسياسية، تخلق بمجملها بيئة ضاغطة تسلب الانسان الفرد منذ الطفولة، وبشكل خاص المرأة، الحرية وأمكانات التطور الطبيعية وحق التعبير عن الذات ولعب دور هام في التغيير ورسم ملامح المستقبل. بينما تعبر على موضوعات اخرى بعجالة، بشكل مكثف وحاد ان جاز القول، على هامش احداث وعلاقات وموضوعات اساسية. تقول مثلا " .. غالطت المبدأ القائل بأن الانسان وحدة واحدة لا يتجزء، والاخلاق حينما تتردى من جهة ما، ستكون جاهزة لشق نسيج القيم القويمة من جهات اخرى" و تواصل تأكيد نفس الفكرة الفلسفسية لتقول " كان علي ان اعرف ان من يسرق الافكار ويدعيها لنفسه، او يختلس المال ويراوغ ويعمل كل شيْ من اجل الحصول عليه، سيخون حتما"
في بوحها تعزف بلقيس على الكثير من الاوتار لحب المرأة ومقاومتها ومشاعرها وأخلاصها وتمردها وتضحياتها، تعزف على أيقاع يكشف أزدواجية الرجل الشرقي وأنانيته وتمسكه بقيم يكتسبها منذ الصغر في الوطن، لا يفلح في تجاوزها او تشذيبها في بلدان الغربة. الملفت في اسلوب الكاتبة هو اعتماد ما يشبه منولوج داخلي، روحي، تسرد به سومر قصة حبها وتتحدث عن آلامها وقناعاتها ورؤيتها. كما انها لا تعير الكثير من الاهتمام للمكان وتفاصيله وتأثيراته المباشرة على ابطال روايتها، وكأنها تفتح لهم الحدود الجغرافية ليفتحوا دواخلهم ويتحدثوا بحرية مطلقة وببساطة عن انفعالاتهم وأرواحهم.
ان القارئ الذي لم يقرأ لبلقيس حميد حسن سابقا، سيكتشفها، وهو يداعب اوتار بوحها، بأن الكاتبة شاعرة حب وجمال وانتصار المرأة والقيم الانسانية، شاعرة تعشق الحياة والحرية والتمرد.