نافذة

بلقيس السنيد تعلن الحب بين الناس من نوافذ الغربة Print

شاعرة عراقية ترى ان الشعر ذاكرة البشر، وسلوة في صمتهم، وحكمة في الحزن والضياع، والشعر حب ينزع الأحقاد في القلوب ليورق السلام.

بقلم: حيدر قاسم الحجامي

الغربة موت يتجدد كل يوم

بلقيس حميد حسن السنيد طائر مغترب يحط في أماكن متفرقة، وصلت الى هولندا عام 1994 بلد الزهور، وهناك بدأت رحلة أخرى في المنفى البارد ، هي واحدة من المبدعات العراقيات اللواتي تخرجن من مدرسة الابداع الشعري في سوق الشيوخ وواصلن مسيرة شاقة ناجحة.

تقول بلقيس عن رحلة الاغتراب الطويلة ومدينة سوق الشيوخ "ذاكرتي شوارع المدينة الفقيرة، ونهرها العجوز، وأهلها الغافون في أحلامهم على هدى الشاعر والقصيدة. سوق الشيوخ عاصمة الدنيا لدي. وليختر البشر عاصمة لكونهم، فإنني اخترت وكان السبي من مدينتي عسيرا.. ذاكرتي صغارها، وأصدقاء العمر ممن عصفت فيهم يد المنون والمنافي، وأودعتني غربة لغربة أقسى، كأني طائر من بلدي يحطّ كل يوم في مدينتي، لينتحب، وليخبر القريب والبعيد بأنني أحبهم، أهلي وكل من مرّ على طفولتي، وداعب الضفائر الصغيرة..ذاكرتي مدرستي حليمة السعدية، معلمات كنّ او مدرسات، واحفظ الأسماء في روحي فذي كريمة الدبوس وتلك نازك المزهر.. وما حفظت من دروس فوزية السنيد، او فتوح، او فريدة ..ذاكرتي الأشعار في الغدير، والمولد الشريف، تسابق الفرسان في الشعر وتوزيع النذور، ومولد الحسين ومهدهُ المضيء، بلونه الأخضر وسكـّر المصقول في افواهنا يذوب .. ذاكرتي تلك المعارض الجميلة التي تقام كل عام، فتحتفي سوق الشيوخ كلها بالفن والجمال.. ذاكرتي رياضة المدارس، استعراضها الدائم كل عام، وقوس نار قد يمر عبره عنيد، والركض او ما قد يسمى لعبة البريد.. العابنا، ملابس الكشافة الجميلة، وأكؤس الفوز 'ويا ناس فد هلهولة حليمة طلعت اولى' والفرح اللذيذ في الطفولة .. ذاكرتي اقرأ كل رفعة العلم قصيدة الخميس في مدرستي تصفق الأكف لي ..حميمة كانت لنا الصداقة والحب والعلاقة..

ذاكرتي المسير في الصيف على الشط، وفي المساء تمتليء السطوح بالأسرّة، والكلل البيضاء والبخور، وكل ما تثرثر الضفادع الحيرى من النقيق، وصوت أم كلثوم يأتي من بعيد، من نادي الموظفين في سوق الشيوخ، مع هدأة الرياح، نكون في الأسرة، فننتشي بالصوت كأنما نسكر بالهواء، نسكر في وجودنا بهذه المدينة الصغيرة الحبيبة..ذاكرتي أبي، وأهلي، وخالي الشاعر حسون وأعمامي السنيد، ذاكرتي مكتبة المدينة، وبدر موظف بسيط في المكتبة قد قرأ الالاف من كتب العلوم والثقافة، يختار لي من الكتب احسنها ، يهمس في اذني: بنيتي هذا كتاب خطرٌ عليكِ، أعيره لك ِ باسمي وليس باسمكِ، حتى اذا البعث رأى زبائن الكتاب، أكون في المواجهة، وانتِ في أمان... ذاكرتي تقتلني، فان فيها كتبا تقال وأدمعا تنهال وجمرة الحنين ..".

وتضيف الشاعرة "غربتنا والوجع الدامي صديقي لم يكن خيارنا، الموت كان البطل الأوحد فيها حين كانت المطاردة، والبعث كان قاتلا لنا ولا محال..الموت كان وحده البديل، فلابديل غير أن نهاجر، ونترك الأحباب أو نكون في المقابر، كغيرنا كحيدر السنيد، أخي الذي لا قبر، لا جثة..وأن تكن عظامنا منسية بلا أسماء أو شواهد.. والغربة القاتلة التي تهدّ بالأعمار، أثقل من جدار فوق القلب يا صديقي، فلا غواية ولا أشعار نريدها، فكل يوم في المنافي موتنا جديد، وكل يوم قهرنا يزيد.

وتنتقل بلقيس من ذكرياتها لأحلامها وما تحقق منها ليس إلا السراب والشعر والغربة والبكاء والعذاب، لكنها حققت حب الناس "وهو بلا أثمان، فرغم فقري أمتلك قلوبكم وهذه الثروة لا تقاس، كثروة الوالد حين قال:
"إن ازهق الموت روحي وغاب في الترب جسمي، فثروتي بعد موتي ديوان شعري ورسمي..".

وتقول بلقيس عن تجربتها الشعرية "مخاض مريم" "مخاضيَ الكبير لايزال، يوجعني، أكتبه بكل روحي، أنحت المزيد في الفراغ من المنافي كالوعيد يأكلني ويحرق الجليد، فكل عمري يا أخي انتظار، أو مخاض، أو أرق.. وكل عمري غصّة وكلهُ حنين.. وكل عمري دمعة تجول في الأحداق، أسحبها من الصميم، وأمسح الجروح وأبتسم، وكل من رآني ظن انني سعيدة، طافحة بالعشق والفرح. فان لي رسالة لم أستطع عن دربها أحيد، رسالتي أعلنها: الحب بين الناس. والحب من جديد، والحب، الحب هو الخلاص.

وتضيف شاعرة العراق التي اختيرت من بين أفضل 150 شاعرة كأهم شاعرات بالعالم تمتاز أشعارهن- كما جاء في الكتاب- بالكفاح من أجل الحرية والتوق لعالم خال من الاضطهاد والحروب والظلم " العالم الذي ينهار لا تكفيه محض آهة أو وزن أو كلام، العالم الآن يموج في الظلمة، والدماء للقرار.. والشاعر القادر بالصدق له القدرة أن يقول، رسالة يخص فيها صاحب القرار والبسيط والمظلوم، يخص فيها الجالس الآن على الكرسي والمسجون. .يخص فيها سيداً او مالكاً ويهتدي بهديها المظلوم كثورة العبيد..الشعر غالباً رموز، والشعر تلويحة منديل على السفين، فهل تعيد عطره الرياح للحبيب؟ لكنه ذاكرة البشر، وسلوة في صمتهم، وحكمة في الحزن والضياع، والشعر حب ينزع الاحقاد في القلوب ليورق السلام، والشعر قد يكون أمنية الشاعر حين الظلم يستزيد في موت آلاف من الاطفال، ويقهر العشاق ويقتل الطيور في الحرب وفي القنابل، وحينها يكون الشعر صاروخاً به يمزقون خوفهم، وفقرهم، ويلعنون صفحة الكسل.. والشعر قد يهزهم فقد يروا أجمل ما في الكون من حقائق، والشعر قد يحرر العقول كالشمس، كالنهار.

وترى بلقيس ان وضع المبدعات العربيات لا يزال مشوب بالقهر والتهميش "المبدعات وضعهن لا يسر، لا عدو، لا صديق .. المبدعات اليوم مقهورات، مهمشات غالبا، الا لمن لها مكان عند سيد او قائد او تملك المال وقد تملك اشياء اخرى .... لا تستفزني صديقي فموقفي مبكٍ، وان عالم الرجال قد بلغ السيل به الضفائر، فلا رجاء للنساء غير أن يمسحن دمعا في الليالي، أو يثرن في الفجر مع الشروق لتستوي الحياة، والأم تبني الكون من جديد، دونها نرى تلوث الأخلاق والأفكار بعالم الجهل وعالم الوحوش وقاتلي حضارة العقول..أقول ان وضع للمبدعات معقد جدا، فلا حقوق ولا دعم مقنن، اذ لا قانون يسند وضع المرأة عموما، والمبدعة تعاني اكثر بحكم انها غالبا ما تكون متمردة على واقع يضع المرأة اخر السلم من البشر في قوانين الدول العربية، فلا القانون يعترف بعقل المرأة وانسانيتها كاملة ولا عقلية الناس في مجتمعاتنا تنسى الجهل ووأد النساء، المرأة اليوم تذبح على الشبهة، وعلى الشكوك، وتمشيا مع الامراض النفسية المنتشرة في المجتمعات العربية، المرأة متهمة غالبا، إن لبست وإن ابتسمت وإن تحركت وإن كتبت وان سافرت، وإن اختارت شريكها، وإن اختارت توجهها وإن انخرطت في اختصاص حسب مزاجها، وإن اعجبتها رياضة دون سواها وإن اعجبها فن ما، وخاصة في العراق اليوم، نراها حزينة، بوجهها مسحة من الكآبة لكثرة ما مر بها من حزن وفقد وهموم وآلام، وعذابات لا تعد ولا تحصى، فالمرأة العراقية حاملة الوجع الأزلي بامتياز ..إن قهر المرأة يودي بالمجتمعات وهو أخطر شيء، وقد سمعت قبل أيام ان هناك حملة قتل تقوم بها مجموعات متطرفة ضد الأطباء المختصين بأمراض النساء، وهذا يعني هناك رغبة بإبادة النساء وقتلهن غير المباشر، أي إبادة للمجتمع بصورة بطيئة وغير معلنة، فالمرأة هي منجبة الحياة، وبإبادتها إنهاء للجنس البشري.. كل شيء من أفعال المرأة اليومية بات نضالا عندها، لابد أن تحذر منه وأن تضع حسابات لما يقال ولما سينالها من ازدراء وعقوبات همجية لم تخطر على بال .. انها اكثر المضطهدين في العالم – بفتح الطاء- وإن كانت مبدعة ستكون في المواجهة أكثر. أي بوضع أخطر من سواها".

وتنخرط بلقيس في الكلام عن الشعر والمثقف العربي "الشعر في تراجع، لأن اللغة العربية تراجعت، وصار كل من يعرف يقرأ ويكتب شاعرا، وطغى شعر الهجاء والمديح وباللهجة العامية التي ليس لها علاقة بالكتب والقواميس والتراث والبحوث، وليس لها علاقة بالنحو وعلم اللغة، فالعراق في تراجع شعريا، وهذا لا يعني ان ليس هناك شعراء يبهرونني في نصوص خارجة من بين الأنقاض كدرة تخرج من بحر الظلام مشعة.. كذلك أجد أن المنافي التي أجبر الكثير من الشعراء على العيش بها قد أثرت المشهد الشعري, إذ اطلع الشعراء على حيوات شعراء اخرين وتجاربهم و ظروفهم وعرفوا أرواحهم ومفرادتهم، وحتما يكون التأثر بالشاعر ملموسا مهما كان النزق العراقي كبيرا احيانا بسبب ظروف الاغتراب المفروض والشعور بالأفضلية, والغبن الذي لحق بالعراقيين نتيجة السياسات الخاطئة التي أجبرتهم على خسارة وطن وأهل ومكانة وكل شيء" .

وتضيف عن الثقافة العربية والمثقف العراقي والدور المنوط بهما في زمن الثورات "ارى ان هناك هوة كبيرة بين المثقف والشعب، فالمثقف - غالبا - تحرر من عقليات لازالت هي السمة الاساسية للمجتمع العربي والعراقي خاصة، مما جعل اللغة بين المثقف والجماهير مربكة وغير مفهومة غالبا، بل أصبح المثقف شبه معزول عن الجماهير المشغولة بتدبير حياتها حتى باتت الثقافة عندها شيئا من الترف، رغم أن المثقف يحاول أن يكون في قلب الدفاع عن هموم الجماهير ومعاناتهم ويحاول أن يحمل راياتهم دائما، لكن هناك رفض متعلق بوعي الجماهير للمثقف، إذ ان الحروب طويلة الأمد، والموت والفقد والقهر الذي مر به الشعب، واليأس والاحباط الذي أشاع الكآبة والسخرية من الحياة، وضعف التعليم وتدهوره جعل الجهل سمة الجماهير العراقية التي عزفت عن قراءة كتاب وهي دليل على تراجع التعليم والمعرفة، ورداءة ما يشجع من نصوص تملأ الصحف والمواقع، فمن بعد ذلك يجد متعة بقراءة نص شعري غير المثقفين انفسهم ".

وتقول بلقيس عن الثورة العربية التي اشعلها البوعزيزي بجسده "بداية كنت أعول عليها حينما انطلقت الشرارة من حرق البوعزيزي نفسه صراخا واحتجاجا على الظلم، وحينما خرج المصريون وكان موت الشاب خالد سعيد تحت التعذيب الشعرة التي قصمت ظهر البعير.. وعموما الانسان لا يستطيع أن يقف مع حكومات تقتل شعوبها وتجوعهم، لهذا كتبت الكثير من المقالات وكتبت قصيدة عن الثورات لتمجيدها، وقدرت أن هذه الشعوب تنوء بما كنا ننوء به زمن صدام، فوجدت أن من العدل الدفاع عن قضاياهم، لأن العدل عندي هو الوقوف مع الأعزل ومع الضعيف ومع المقهور، لهذا وقفت مع الثورات، ولا زلت أقف اذ اجد أن الحكومات تواجه العزل بالرصاص.. لكنني، حذرت في احدى قصائدي اثناء الثورة المصرية من سرقة الثورات، وللأسف حصل ذلك كما توقعت، ونراه اليوم في مصر وتونس وليبيا، وهذا المد المتطرف الذي يجتاح المنطقة العربية والذي استغلته المصالح الخارجية المعادية للعرب أيما استغلال يقلقني كثيرا ويربك الموقف والمشهد ويخلط الأوراق فلا يستطيع المرء ان يكون ضد ثورة شعبية، وبذات الوقت لا يستطيع ان يشترط عليهم توجها معينا وهو مؤمن بالديمقراطية، لقد ضاعت الخيوط وتشابكت يا صديقي حتى التبس الأمر على الشعوب العربية التي تتأخر بأغلبية أمية لا تقرأ ولا تكتب ويعشش الفقر والحرمان في بيوتاتها وشوارعها".

ولاتفوت بلقيس الفرصة للحديث عن حلمها بطرد الدكتاتور والتجربة الديموقراطية في العراق "لم يخفق النضال، لأنه ليس ورقة يانصيب نسحبها ونتوقع الفوز او الفشل انما كان واجبا وطنيا وانسانيا ضد الظلم والاستبداد والقهر الذي سلط على الشعب واستأثر بخيرات العراق وأفقر شعبه وزجه في اتون الحروب وأذكى نيران الأحقاد والطائفية وقدح كل ما للعداوة من أسباب. وأحيى كل ما للبداوة والتخلف والجهل من ظروف، فلم يكن لصاحب المبدأ الانساني سوى النضال ضد هكذا نظام، ولكن الذي أخفق هو الآخر الذي أعاد الكرة في الاستبداد والتسلط, وطغى حتى صار الضحية جلادا .. اليوم نرى أطفال الشوارع وعوائل الشهداء الذين ضحوا في أرواحهم يعانون، وينام الاف العوائل في صفيح التنك، وأصحاب القرار يستلمون الاف الدولارات ويجلسون ببيوت محصنة ومصفحات هم وعوائلهم, وعندهم حمايات تستلم ورواتب ضخمة وعندهم أتباع لتتكون طبقة طفيلية تعتاش على حساب الآخرين المهمشين والمظلومين، ويدعون أنهم يبكون على الحسين ويحيون كربلاء.. عجبا ويترك الفقير في العراء، هذا هو البلاء، وهذي لو يتعضون من جديد كربلاء.فأين هم من قادة الأمس القريب كالشهيد عبد الكريم قاسم الذي تبرع ببيته كمدرسة للبنات وبقي يعيش في وزارة الدفاع ينام على الأرض ؟

وتقول الشاعرة العراقية عن أخر مشاريعها الشعرية "عندي الكثير من الاشعار التي تكون مجموعات، وعندي رواية لكنني لم انشر، بسبب ظروف خاصة ومتطلبات دور النشر المادية المحبطة".
16-4-2012