نافذة

"عمو حباب لا تقتلني" Print
"عمو حباب لا تقتلني"                
بلقيس حميد حسن
اعتذر من المبدع حامد المالكي اذ استعير جملته الشهيرة بعنوان مقالتي هذه, والتي جاءت على لسان الطفل الضحية في مسلسل ابو طبر, قبل لحظة قتله, فما ان انتهيت من كتابة مقالي الموسوم" أبو طبر هلع وأسرار لم تكتشف بعد", حتى صرخ الطفل البريء والمذبوح في احدى جرائم أبو طبر, وصار يدق على  ذاكرتي ويعاتبني مذكراً اياي بجملته الشهيرة وهو يواجه الرعب مرتجفا:
"عمو حباب لا تقتلني"
صار يأتيني بصورة كل أطفال العراق المذبوحين على مدى عقود طويلة, يذكرني بالأيتام, والمشردين على قارعة شوارع لا ترحم.
لقد استطاع الكاتب المبدع  حامد المالكي وبمشهد واحد, أن يدافع عن كل هؤلاء  حيث اختزل كل شيء  في جملة "عمو حباب لا تقتلني" وماتبعها من أفكار أبو طبر وهو يبرر قتل الطفل.
نعم انه أثار عذابات كل أطفال العراق, جوعهم وخوفهم, أميتهم, وضياعهم, اضطرارهم للعمل مع من لا يرحم, حرماناتهم المهولة ومايترتب عليها من امراض نفسية واجتماعية, سقوطهم بمحذورات اجتماعية تشوه طفولتهم الناصعة وتنهي كل مايجب ان يكونوه, كجيل مستقبل نتمناه ونأمل به خيرا.
لقد وظف كاتب المسلسل ابداعه لصالح الانسان وحقوق الطفل التي لا يعرفها اطفال العراق في كل التواريخ قديمها وحديثها, فتح كل الأوجاع والقضايا حينما قرع على  لسان المبدع كاظم القريشي الأجراس في التنبيه لمعانات الأيتام وما اكثرهم في وطننا المنكوب, العراق بلد ملايين الايتام بلا منازع, والمسلسل ذكرنا بهم جميعا وبأسرع طريقة, حينما قال السفاح للطفل بأنك يجب أن تكون مع ماما وبابا حتى لا تبقى يتيما, ضعيفا, فيستغلك أحد, قال له - وبحسب ما تمليه عليه ساديته- لا بد ان تموت كي لا تبقى وحيدا فتحتاج لأحد ٍ من الناس فتقع في مآس كثيرة, وهذه حالة الملايين من أيتام العراق.
هنا يبارك الابداع حينما يبكي الفنان كاظم القريشي في كل مرة يتذكر فيها "عمو حباب لا تقتلني" فيبكينا معه.
لقد نجح مسلسل ابو طبر حيث جعلنا نتذكره في كل مرة نسمع بقتل او اعتداء, وأجدني اخبيء في داخلي اضافات واضافات لمسلسل عرض حياتنا قبلا وبعدا.
أليس القتل العشوائي, والانفجارات, وكواتم الصوت تشبه ابو طبر حيث تعبث ببغداد وتستبيحها؟ بل في اغلب مدن العراق وليس ببغداد فقط.
اليس الفقر ودوافع السرقة موجودة الان في مجتمع اليوم؟
اليس وضع المرأة في العراق الان لا يختلف عن زمن ابو طبر, زمن تلك السلطة المشبوهة التي لفّ الغموض والأسرار حقبتها التعسة حتى بعد رحيلها؟ أليست المرأة اليوم خائفة من ارتداء ماترغب؟  لا بسبب سلطة تصبغ بالدهان سيقان النساء اللواتي يرتدين القصير, انما قد تقتل الف قتلة وتستهجن من الجميع لو تجرأت على ما كانت تتجرأ عليه زمن ابو طبر. اليس هذا تذكير بما نحن فيه اليوم, فأين حرية النساء في العراق؟ وأين نضال أكثر من نصف قرن من الزمن لمناضلات ضحين بانفسهن ودخلن السجون والمعتقلات على سبيل المثال لا الحصر ,الراحلة د. نزيهة الدليمي, د. سعاد خيري, وبشرى برتو, وزكية خليفة, والشهيدة عايدة ياسين, والشهيدة موناليزا أمين, والمناضلة بثينة الشريف.. وقائمة طويلة ضمت مئات الشهيدات والمعذبات الطامحات بحياة حضارية للمرأة العراقية, وآلاف من المغيبات, والمعذبات في السجون, والمهجرات, والمهاجرات الحاملات معهن الوطن, وقيم الانسانية النبيلة, حيث تبعثرت حيواتهن بين الغربة والحنين والفقد والتهميش..
أحداث كثيرة استشرفها الكاتب حامد المالكي في ابو طبر, فأجدني أعود متذكرة ماجاء في المسلسل الذي أراق أمامنا دماء الأبرياء بسخاء ليعلن عن جريمة طويلة في العراق, ولنعترف بأن حياة العراقيين فيلم رعب لا ينتهي..
ألم يحول البعث العراق الى ملك لعائلة هوجاء وعصابة قتل؟ وهاهم اليوم يعودون بكل صلافة ليدافعوا عن البعث مدعين ان لا يد له في كل مناحاتنا؟
هاهم يمرحون ويسرحون في قلب النظام اليوم, بعد ان صرخ العالم في وجه كل من أتى على ذكر كلمة " اجتثاث البعث" واتهمه باللا انسانية والتعصب والتطرف والعدوانية, وجملة من الاتهامات التي لولاها لانحسر خطر فكر البعث اليوم واصبح من الماضي, لا أن يرفع اعضائه رؤوسهم متبجحين بماض ٍ أسموه أفضل مع الأسف, بعد أن صدمنا الحاضر وأحبطنا. ولان المجرم لابد وان يعاقب على ما ارتكبه, أحببت هنا ان أوضح أهمية العزلة على ضمير المرء, فالعزلة تجعل الانسان يعود الى دواخله, الى جوهر روحه, الى حقيقة الحياة وحاجاتها, فالسجن الانفرادي  ليس به مسؤولية للسجين عن أي شيء من متطلبات الحياة, انما هو فقر, وبه وحدة ,ورؤية لحقيقة الانسان, اذ يبقى أمام ذاته وجسده الذي هو ملكه الوحيد وهو ليس اكثر من وعاء لفكره وطموحاته وكل احلامه. لكنه لا يقوى على أي شيء منها حينما يكون سجينا, منعزلا, عندها يبدأ الزهد بالحياة يدب لرأسه شيئا فشيئا وتتبين الروح, اي الفكر, أي الضمير, اي القاضي بالعدل والحق. حينها يبدأ المرء صراعه مع افعاله الماضية, ليجد أن الحياة لا تستحق أن يفعل بها جريمته التي فعلها. فيقع  أبو طبر في حالة من تبكيت الضمير, وهذا حسب اعتقادي هو اسقاط الكاتب حامد المالكي شخصيا وتعليله لضرورة العقاب , فمن أمن العقوبة أساء الأدب, وهذه المقولة تنعكس على حياة الناس ولكن المشكلة لدينا هي: من يحدد الجريمة او الخطأ ليفرض العقوبة الصح او العلاج عليها؟  كيف تكون السجون مدرسة تأهيل كما هو غرضها وليس مكانا للانتقام والتعذيب وتعلم الجرائم, كيف نجعل المجرم يختلي بنفسه والزنانزين تعج بالمجرمين ليعيشوا سوية ويكون لديهم مجتمع صغير من اللا أخلاق داخل السجن ليتعلم بعضهم أساليب بعض أكثر فتتحول السجون الى مدارس لتعلم الجريمة وليس الفضيلة وصقل النفس البشرية المخطئة..
هنا تكمن المسؤولية عن أكبر مشاكل المجتمع العراقي اليوم التي لا بد للحكومة العراقية من وضع اليد عليها لننتهي من فلم الموت اليومي, ولنقضي على أبو طبر الذي لا زال طليقا, يعبث بحيواتنا دونما قيود..
18-10-2011