نافذة

"هناك في الأعالي, في كردستان" Print

                                  "هناك في الأعالي, في كردستان"
 
الى جميع مَن التقيتهم في كردستان الحبيبة..

بلقيس حميد حسن

سأكتب هنا عن رحلتي الى الجبال التي احتضنت ارواح من يمدون سواهم بالحياة.
ولأن الوفاء والمحبة الحقة لاتعرف الاسماء والاعداد, ولأنني لا أطلب الزلفى, واخشى ذاكرتي ان تخون فأنسى احدا ممن التقيت فيتألم,  لذا سوف لن أسمّي من التقيتهم وهم أحبة واصدقاء كثر, وقد صاروا لي أهلا, لن انساهم ماحييت.
هناك في أربيل الطيبة, وفي عقرة الشامخة, والسليمانية الغافية في احضان الجبال, وعين كاوة العذبة, هناك حيث حلبجة الشهيدة حضرت بشخص قائمقامها  الذي قدم لنا دروع المحبة للمدينة التي استفاقت من الموت, كما حضر جبل سنجار بكل محبة الأيزيديين ونضالهم القاسي من أجل الحياة.
هناك في الأعالي حيث يتساقط الماء معلنا انحناءة التحية والتواضع من علياء الجبال الشاهقة بالوانها وخلودها الخلاب..
هناك, وفي تلك القمم, قبل زمن ليس ببعيد, كان الصراع من اجل البقاء مجازفة وليس قانونا من قوانين الطبيعة.
هناك, حيث كانت الحياة اول وأبسط مايفقده الانسان في زمن ٍ كدر ٍ سوف لن يعود مادام هناك قلوبٌ بيضاء نابضة بالمحبة وجمال الروح.
هناك, كان الانسان مهددا بالانقراض, رغم كل عظمته وقدرته على تطويع الطبيعة وبناء الحضارات.
هناك, حيث الحياة على الجبال انتهكت بكل مقدساتها ولعقود طويلة, وكأن الطاغية اراد ان يقول بأن طغيانه تجاوز كل عظمة, فيالجبروت من يحاول قهر جبل أزمر بكل مابه من حيوات, وبكل روعة اخاديده, ألوانه, زواياه, علوه, تعرجاته, وكبره المهيب..
في مهرجان تكريم المناضل الدكتور كاظم حبيب, صديق الشعب الكردي والشعوب المقهورة. كان الأحبة في مدن كردستان الحبيبة, يستقبلوننا - نحن المدعوين-  بفرح وكأننا آتين لهم بأغصان الجنة. نحن الذين لم نقل سوى كلمة حق في زمن رديء باتت به كلمة الحق فضل على الضحية. فما أطيب تلك القلوب التي أشرعت لنا كل النوافذ والابواب في كردستان.
هناك رأيت المحبة فاردة شعرها على كل الجهات, راسمة بهاء قوس قزح على سماء تلك المدن والقرى والبيوتات المتباعدة, غامزة الجميع بلذة الضوء من بين فجوات القمم والوديان والشجيرات المتجذرة بأرضها رغم كل تقلبات الطبيعة المجنونة.
أيه ٍ قلعة أربيل الغافية امام السوق الصاخب بالناس والمتجولين, هل ستحدثين السيـّاح عن كل حجارة من احجارك؟ هل ستصفين عطاء تلك الجبال الشم؟
ايه ٍ قلعة اربيل الصامدة رغم اسلحة الفتك والدمار والخوف الذي ارجف قلوب قادة وعظماء, وابطال, ومواكب جيوش, مثلما ارجف قلوب صغار وابرياء.
أخبرينا ايتها الحصون الممتدة كما الأفق, أي سر ٍ طبيعي يمنحك تلك الصلابة فترفضين  الغدر والطغيان؟ وأية وردة حمراء تنتظرين في زمن تهبينه مفتاحك, بل قلبك  برحابة صدر؟
كم من  بقاع عريقة هناك؟ واي عدد من الشعوب, والتواريخ, والممالك, والاقوام, والصراعات مرت, لتبقى القلعة شامخة معلنة الانتصار على كل الظالمين.
تقف القلعة الان بكل زهو, متفردة, باسمة, ناظرة لقرص الشمس, متأملة الغد الآتي كملكة متوجه, تسلم زمام امورها لشعب طيب لا يعرف غير الصدق والبساطة والمحبة والتضحيات..
هناك, وفي مدخل مدينة عقرة, كان في استقبالنا بكل روحه المرحة, وبنبل نواياه, الراحل  ناجي عقراوي, كدت وانا أرى نصبه ان اصرخ: الا ترون انه يلوح لنا ويبتسم؟ كنت اتمنى ان اقول لرفاقي باعلي صوتي:
قفوا لنتحاور مع الرجل الوطني لنعرف اخر مقال كتبه بعد الرحيل. ولنعرف هل رحل حقا, ام عاد الى وطنه الاول عقرة ليحيا فيها الى الابد؟ فلا زلت احتفظ  بعنوانه الالكتروني, ولازلت ارغب في التواصل معه والتحاور عن آخر المستجدات..
وهناك في عقرة, وفي المركز الثقافي للمدينة, كان الاستقبال رائعا من قائمقامها ومثقفيها ومربيها الأفاضل, قرأنا الشعر. حرضتني اشعار السياب في الحنين, فبكيت لشعور اختلط عندي بين مارأيت من أهلي في كردستان من محبة واهتمام,  وبين غربتي التي طالت.  
هناك, رأيت كرامة ابناء كردستان رغم صعوبة الظروف التي مروا بها. كان الناس من الباعة او سائقي التاكسي او العاملين في المطاعم والمحلات التجارية, جميعهم يتعاملون معنا باهتمام وحفاوة, ولكن بكرامة عالية, كرامة بزغ بسببها  في فكري الف نور للأمل, فالشعب الذي لم ينسحق رغم كل المجازر والأهوال, قادر على البناء وخلق الحياة والنهوض من بين الانقاض حتما.
وهناك في كردستان, رأيت تلقائية المسؤولين في المؤسسات الحكومية, كان الجميع على درجة من التواضع ما اعتدناها ومارأيناها قط.
هناك, كان الجميع في وزارة الثقافة والشباب من الموظفين والعاملين في الوزارة, والسائقين والمستخدمين, يجهدون انفسهم من اجل راحتنا بكل طيبة وأصالة.
هناك لمست ان وزير الثقافة والشباب  لم يزل ذلك الأخ, الانسان, المناضل الذي يتعامل مع الجميع مثلما كان سابقا, حينما عارض نظام الاستبداد المقبور. مازال بذات الروح واللغة الحميمية, وهو  ذلك الشاب, حامل السلاح في كردستان ضد نظام دموي عتيد في ظلمه وعدوانه, أو ذلك المنفي بسبب مواقفه المبدئية, الباحث في كتب الثقافة والجامعات عن دواء ناجع ينقذ الانسانية من القهر والاضطهاد. رأيت شقته المتواضعة, والتي تختلف عن القصور والفلل الضخمة كما لدى بعض الوزراء في امكنة ليست بعيدة عن تلك البقاع. لم تختلف شقته عن شقة اي موظف عراقي. هناك كانت زوجته وهي صديقة  منذ زمن النضال المر. اعدت لنا الطعام, لم يكن لديهم خادمة ولا حرس ولا حماية, اقلـّنا في سيارته الصغيرة حيث شاهدنا قلعة اربيل القديمة المعتقة بأكثر من سبعة الاف عام.
هناك, أمام القلعة وبمحاذاة جدارها الصاعد نحو الشمس, سرنا مع وزير الثقافة والشباب, وحين قطعنا الشارع نحو القلعة, استوقف الوزير رجل, اراد طلب شيء, توقف معه الوزير وبدون ابطاء اعطاه موعدا..
تساءلت مع الاصدقاء من الضيوف المدعوين الخائفين على الوزير, والفرحين بشخصيته الديمقراطية المثيرة للاعجاب بطيبتها وعدم اكتراثه لخطورة موقعه كوزير للثقافة, في زمن عراقي  باتت فيه الثقافة هدفا لذئاب التشدد,  وافاعي الموت المتصيدة في الماء العكر وفي فتحات الحدود وبين سفوح الجبال. كانت مشاعرنا خليطا من الفرح المشوب بالقلق, فتساءلنا بحرص الخائف على ما يفرحه:
اين حمايتك ايها الوزير الزاهد في بلد لازال يقدم الضحايا يوميا؟
أين حراسك واسلحتهم وعضلاتهم المفتولة؟ امثالك لديهم الكثير, وانت لماذا تجعلنا نخاف عليك؟
فاذا بعقولنا ترد ببضع كلمات, مستغربة أسئلتنا, معاتبة, ورافضة قلقنا:
انه وزير لم يأخذ, أو يخبيء, أو يفعل ما يجعله يخاف ابدا ..
29-6-2010


 


 


 

نشر في الحوار المتمدن ومواقع اخرى