نافذة

لقاء في أيام الحرب مع الشاعرة والكاتبة العراقية بلقيس حميد حسن في جريدة الوطن السعودية . Print

لقاء مع الشاعرة والكاتبة العراقية بلقيس حميد حسن

أجراه الصحفي السعودي: مصلح جميل

س: وأنت تقيمين خارج العراق وتتابعين أخبار الحرب والعدوان على العراق ما هو شعورك تجاه ما يحدث؟

ج :
بلادي وإن جارت عليّ عزيزة
وقومي وإن شحـّوا عليّ كرامُ

كيف سيكون شعوري وأنا أرى وطني يـُدك بأيد مجرمي هذا الزمان وممثلي الشر والظلم في العالم ؟
ماذا سيكون شعوري وأنا أرى الناس من أبناء شعبي العزيز يموتون تحت أنقاض بيوتهم؟ أرى الأطفال تقتل بدم بارد ومن طائرات تحمل الموت لأجيال بإشعاعاتها المدمرة, التي ستستوطن بالعراق بلايين السنين, بأرضه وهواءه ونباته , بنخيله الجميل الذي أعشق , والذي أبكيه ليل نهار, ابكي على كل نخلة تتمايل تحت الدمار والقصف كإمراة حزينة مفجوعة, تفرد شعرها باكية أبنائها الأبرياء, وأنا عاجزة لاأستطيع أن أرد شيئا الا بما نقوم به من مظاهرات ومقالات واحتجاجات ولقاءات ودموع وسواه مما لاينفع ولايرد معتد, بعدما أصبح الرأي والموقف- حتى لو لملايين من الناس لاقيمة له- وضربت أمريكا القوانين الدولية والقيم الأنسانية عرض الحائط, وفرضت شريعة الغاب واستبدت بالعالم.
رغم أنني معارضة للنظام لكن العراق عراقنا لاعراق صدام, والشعب العراقي شعب الحضارة والتأريخ وهذا ليس من صنع صدام بل هو إرث الملايين وجهود آلاف سنين لآلاف أجيال ممتدة منذ بدء الخليقة حتى الآن, ومانفع معارضتي لو رضيت بمستعمر ينفذ خطط الصهاينة ويحميهم على جثث أبناء فلسطين والعراق, لاأستطيع أن أنسى المذابح التي لاتعد ولاتحصى ضد أبناء أمتنا العربية التي تساهم بها أمريكا بشكل مباشر أو غير مباشر ,وهل يستطيع إنسانا ولو مجرد كونه إنسانا أن ينسى ملجأ العامرية؟ أو ينسى تجويع الشعب العراقي لمدة 13 عاما ومقتل آلاف الأطفال بسبب الحصار ؟ وهل أنسى القنابل التي دكت الجسور والبيوت والملاجيء بعد أن قالوا أن عاصفة الصحراء ستكون عملية جراحية فقط ؟ وهل أنسى الموقف الأمريكي من الشعب العراقي عام 1991 بعد أن أنتفض معارضا النظام العراقي ورافضا لسياسة صدام بإحتلال الكويت, حيث أن الجيش الأمريكي بدل من أن يساعد الشعب العراقي لأسقاط النظام بعد أن وصل الشعب مشارف بغداد وحرر مايقارب 90 بالمائة من مدن العراق, وصار هذا الجيش يدافع عن النظام ضد أبناء الشعب الذين ثاروا بشكل عفوي على الظلم رافضين قتل الأخوة وغزو بلد جار وشقيق مثل الكويت؟وهل أنسى المجازر العديدة على الشعب الفلسطيني واللبناني وقد عشتها ورأيتها بأم عيني, والتي تقف أمريكا حاميا وحارسا بالفيتو الذي تملك ضد أي قرار يدين اسرائيل؟ ماذا سنتذكر من أمريكا؟ وماذا اتذكر ايضا من نظام صدام حسين؟ هل أنسى أخي الشهيد( حيدر) الذي إستشهد بالأنتفاضة ضد نظام صدام وضد سياسته الهوجاء والدموية؟ وهل أنس أيضا الدمار الذي أتى به النظام الدموي والحروب التي دمرت العراق وقادها وبدون أعذار سوى بدافع مرض صدام وإحساسه بداء العظمة, حيث قاد الشعب لمجازر حرب طويلة مدمرة على بلد جار ومسلم وهو إيران لمدة ثمان سنين لم يستفد منها سوى أعداء العرب, والتي أنعشت الأقتصاد الأمريكي طوال سني الحرب وبيعه لهذا النظام أسلحة فتاكة ومدمرة لم يستعملها النظام سوى ضد أبناء الشعب العراقي من الأكراد والشيعة؟  بل لا أنس أن مآسي الشعوب العربية والمخاطر المحدقة بها الآن قد ساهم بها صدام حسين ومنح الأعداء فرصا لا يحلمون بها لتحقيق مخططاتهم ضدنا كأمة, وشق وحدة الصف العربي, وهذه مهما كانت هي بالتالي خدمة لأعدائنا نحن العرب جميعا. آه تـتـنازعني مشاعر صعبة جدا وأتذكر قول الشاعر:
قومي همو قتلوا أميم أخي
فإذا رميت يصيبني سهمي

شعوري لايمكنني أن اصفه بأحرف صماء على ورق, حتى الشعر, أراه يهرب من بين أصابعي كالزئبق براحة اليد لايستقر الى قرار ,اتجهت لكتابة المقالات, إذ أجدني أستطيع من خلالها ألبوح أكثر, صار الشعر هذه الأيام عندي شبيها بحالي ومايتـنازعني من شعور. لقد أصبح الهول أكبر مما يصدق. أرى أن قلمي قلق, وهاأنا بدأت قصيدة منذ ثلاثة أيام لم أستطع إكمالها وتوقفت عند بيتين من الشعر لا أستطيع أن أستمر وأكملها

مليك النخل قد أوريت ناري
وها قلبي يحنّ الى دياري
مليك السعف والرطب المدمـّى
أما زالت جحافلهم بداري؟

 

س :واقع المغتربة الثقافية العراقية بعيدا عن العراق؟

المثقفون والأدباء العراقيون في الخارج يحلمون بتغيير الأوضاع في العراق فهل يقبلون بتغيير عن طريق أمريكا ؟
ج:
هناك إنقسام في هذا الأمر فالبعض تراكض وراء ألأمريكان طامعا بكرسي مهتريْ , أو مكانة سيحصل عليها بعد سقوط النظام, وأنا لا أ جد في أحلامهم إلا سذاجة وحمق, فمن يثق بأمريكا ويصدق نواياها وهو يرى المجازر التي تقوم بها ضد شعوب العالم العربي والأسلامي وتهديدها لكل شعوبنا ودولنا , ووضعها الصهاينة الأسرائيليين بمكانة شعب الله المختار الذي يدلل ويجب أن يعيش على جثة الأمة العربية, وما هذه الحروب إلا تنفيذا للمخططات الصهيونية وتنفيذ حلم إسرائيل الكبرى, وهاهم يهددون سوريا الآن, وما أمريكا سوى إسرائيل, فكيف أصدق أن أمريكا ستحرر الشعب العراقي من صدام بالوقت الذي تساهم بإبادة الشعب الفلسطيني وشعوب أخرى وعلى رأسها العربية والأسلامية؟, والآتي أعظم حيث تريد تخطيط المنطقة كما يحلو لإسرائيل , أنا شخصيا لا أستطيع أن اقف مع غاز ٍ مهما كان, وكما رفضت غزو الكويت, أرفض غزو العراق وأرفض كل غزو وحرب على دولة مهما كانت الأسباب , فالحروب لا تمت للعقل ولا للحضارة بشيء , الحروب وحشية ودمار, ولم تكن يوما حلا ً بل تخريبا لكل الحلول, وجرائم الحروب جرائم منظمة يقوم بها الفاعل بالقتل مع سبق الأصرار والترصد وبشكل جماعي وأكثر قوانين العالم الوضعية تعاقب هذا القاتل بالإعدام , إنني قبل أن أكون شاعرة أنا إنسانة ثم أنني حقوقية وأناضل طوال عمري من أجل حقوق الإنسان وأقف بصف الحياة للبشر لا الموت , أرفض الأصوات المجنونة التي تساهم بقتل الأبرياء والأطفال , أريد عالما خال من الحروب يتمتع به البشر بحقهم بالحياة , حقهم الذي ضمنته لهم كل الأديان والمباديء الأنسانية التي إستمدت القوانين الوضعية أحكامها منها , وبالتالي شرعيتها , ثم أن صدام حسين من صنع أمريكا.وهذا نحن نعرفه جيدا نحن أبناء العراق. فهل سيحترم الشعب العراقي النظام الذي سيأتي على يد أمريكا مرة أخرى وبحرب دمرت أهله وجهوده لسنين طويلة ؟وهل سيثق بها وحقوق شعوب عربية أخرى مغتصبة وأياد الأمريكان ملطخة بدماءهم؟
إنها معادلة معقدة وهذه إحدى معاناتنا والتي أدت لتأرجح البعض بين هذا وذاك . ثم أن منطق أمريكا بالعالم , وهو منطق رعاة البقر ( أما أن تكون معي وإلا أصبحت ضدي ) هذا موقف أرفضه ولا أريد أن أطبقه بالنسبة لما يحصل بالعراق,وأتذكر هنا نصيحة قالها قس بن ساعدة لإبنه :
(يابني, إذا رأيت حربا جبانها يجرأ وجريئها يجبن ُ وخسيس ٌ محتد, يتطاول فيها على كريم ٍ محتد , إنأى عنها الى رابية وتأمل المنظر من بعيد, تجدُ أن في الأمر خيانة) , وأنا والله لا أجد هذه الحرب إلا كذلك .
إذن لابد لصوت العقل من أن يكون موجودا حتى لو كان قليلا وسأبقى أنا ضد هذه الحروب التي أعتبرها جرائم ضد الإنسانية مهما كان عذرها, وسأبقى ضد الظلم والدكتاتورية , ولا أستطيع إلا ذلك, ولو بقيت وحدي أسبح ضد التيار, ولو أن بهذا يكون موتي او يكون لي أعداء كثر- وهم الآن كذلك - وكما يقول الإمام على (ع) : (لا يستوحشنـّك طريق الحق لقلـّة سالكيه) .

س :العراق عبر تاريخه يهجر مبدعيه فهل يمكن أن تأتي حكومة توفر للمبدع العراقي جو الاستقرار وما صفات هذه الحكومة من وجهة نظرك؟
ج :
لاتوجد وصفة جاهزة لحكومة توفر للمبدع جواً من الأستقرار , الأستقرار أبسط حق للإنسان ليحيى بأرضه, فهو واجب على كل حكومة ويجب أن تعمل على تأمينه لأبناء شعبها , والمبدع واحد من أبناء الشعب لأن الأستقرار لايُجزأ لفئة دون أخرى, وما المبدع سوى الصوت المعبر عن واقع أبناء الشعب في أي بلد ما , فالإبداع إنعكاس حقيقي لحياة الناس مهما حاولوا الهروب عنه بخيالهم, فالواقع يكـّون الجزء الكبير من خيال المبدع شئنا أم أبينا . وهناك أشكالا عديدة من الأنظمة تمنح المبدع حرية الأبداع والأستقرار على اختلاف نهجها , أما الحكومات التي تقمع المبدع هي أيضا كثيرة ومختلفة وكل نظام يقمع فئة من أبناء الشعب, لابد وأن يأتي يوما على فئة أخرى, وتنكشف أوراقه السوداء إن طال الزمن أو قصر.

اللقاء تم عبر البريد الالكتروني .


3-4-2003