نافذة

من مستلزمات الحضارة: الحلقة الرابعة..تحديد النسل Print

من مستلزمات الحضارة: الحلقة الرابعة

تحديد النسل

                                                           بلقيس حميد حسن 

تعيـّرنا أنـّا قليل ٌ عديدنا ××× فقلت ُ لها انّ الكرام َ قليل ُ 

منذ ان كان العرب قبائل متناحرة حتى يومنا هذا, لا زالوا يعتبرون  كثرة العدد والنسل قوة ومنعة وهو مصدر فخر ورفعة, وقد يعذرون سابقا, حيث كانت القبائل تغزو بعضها بعضا ويعتبر كل فرد في القبيلة جنديا, ما ان يشب عن الطوق  حتى يتوجب عليه الدفاع عن القبيلة في أي وقت تهدد به من القبائل الاخرى, ورغم ان العرب اليوم يعيشون في مدن "حضرية بالمعنى الشكلي" حيث  يسري بها تيار الكهرباء  وتتمتع بالفضائيات والانترنيت وكل ما ابدعته العقول الغربية من اجهزة لتسهيل الحياة والاتصال بين البشر, كما تسير بطرقات مدنهم أحدث السيارات التي تفنن صنـّاعها للحصول على راحة اكثر للمستعمل, ورغم ان كثرة النسل صار لا يعني سوى مزيد من الاختناقات في الطرق والى المزيد من المشاكل الاجتماعية وانتشار الامراض وكثرة الأزبال وتلوث البيئة خاصة عندما تكون هناك خدمات ليست بالمستوى الذي يتناسب  مع عدد الافراد في العائلة او الشارع او المدينة, رغم كل ذلك لا زال العرب ينجبون المزيد من الأبناء حتى وان اضطروا الى الزواج باكثر من امرأة, ولا زالوا يعتبرون كثرة النسل دليل الرجولة والفحولة والخصوبة وما الى ذلك من مفاهيم, رغم ان العلم اثبت عدم وجود اية علاقة بين هذه المواصفات وكثرة الانجاب.

ولا أريد هنا مناقشة نظرية" ابن خلدون الذي عاش بين1332- 1406 والتي تؤكد على ان النمو الاقتصادي يتناسب طرديا مع النمو السكاني ,أو نظرية " مالتوس الذي عاش بين 1766-1834" وهو يخالف بن خلدون في نظريته التي تقول ان كثرة السكان تكون بمتوالية هندسية اي "1-2-3-4-8-16-32" والإنتاج يكون بمتوالية عددية اي "1-2-3-4-5-6", لهذا سيكون الإنتاج اقل من عدد السكان مما ينتج المجاعات, فكل هذه الأفكار والنظريات, جاءت في عصور اخرى لا تشبه عصرنا بكل مابه من تطور علمي وحضاري, كما ان مفهوم قوة الدولة اليوم اختلف عن السابق, فالقوة ليست بكثرة عدد الجيش كما كان يظن صدام حسين مثلا, حين زج بجياع العراقيين المكرهين على الموت في جبهات القتال بمئات الالاف وهم حاملين  اسلحة بائسة لاتستطيع مواجهة الطيران والقنابل الفتاكة التي  خلفت الصحراء العراقية جثثا متفحمة ,ليقول بان جيش العراق رابع اقوى الجيوش بالعالم . لم يعد العدد هاما لا في القتال ولا في الانتاج والرفاهية, فالتقدم التقني صنع الكثير من الالات التي زاحمت البشر في المصانع والحقول, وباتت الكثرة في السكان تولد الفقر والهجرة وتؤثر على وعي وثقافة المرأة ودورها, اذ تبعدها كثرة الأنجاب عن الحياة العامة وهذا كله لايخلف سوى القهر الاجتماعي  والمعاناة في مجتمع ذكوري لازال يعتبر مساهمة الرجل في العمل المنزلي عيبا, وهو من اختصاص المرأة فقط . 

يؤكد علم النفس والصحة وعلم الاجتماع  اليوم على أهمية التأمل والهدوء في حياة كل انسان من اجل بناء مجتمعات مستقرة سعيدة, وهما لايتوفران في البيوت والشوارع المكتظة, بل تتشكل نتيجة  لذلك بؤر الجريمة والسقوط  حيث  يزدحم الناس مع بعضهم  وتكثر نفاياتهم وامراضهم وترتفع فيها ضغوطهم وتشح فيها خلواتهم وصفاء اذهانهم.

كما ان العراق بحاجة ماسة اليوم الى  العمران والنهوض به بعد كل ماجرى عليه من حروب وكوارث دامت اكثر من اربعة عقود تركته متخلفا على كل الاصعدة, ورغم موارده النفطية فهو اليوم لا يشبه حتى افقر جيرانه, فجميع البلدان سار نحو الأمام عدا العراق الذي تراجع ويتراجع مما به من مخلفات الماضي القريب, وكما نعلم بان جميع الدول التي نهضت من كبواتها عملت على  تحديد النسل لتستطيع ان تربي جيلا صحيحا واعيا يستطيع ان يفكر ويبدع ويبتكر ليقدم للمجتمع مايتماشى مع روح العصر الحديث في العلم والقيم الانسانية والثقافة وحتى السياسة التي باتت حكرا على مجموعة من المغامرين الذين يتلاعبون بمقدرات السكان دونما دراسة وأسس تستطيع إرساء قواعد ثابتة وحقيقية في الحياة السياسية  وقيادة المجتمع, اضافة الى ان تحديد النسل يمنح المرأة وقتا وفرصة اكبر للتعليم والدراسة و يتيح لها بالتالي القدرة على  تربية الأبناء بشكل صحيح ومتحضر ويمنحها الفرصة للمساهمة بشكل اكبر  في رفد دخل العائلة الذي سيؤثر حتما في الاقتصاد الوطني بما تحصل عليه من علم ومعرفة وقدرة على العطاء.

 فهل لنا بانظمة اجتماعية تفكر بالاهتمام بنوع الانسان وليس بعدده, انظمة تفكر بتقديم الوقت للمرأة التي هي نواة وعماد الاسرة, لتصل الى درجة من القدرة على تحمل المسؤولية الملقاة على عاتقها براحة ووعي وعلمية وهدوء؟  انظمة تؤمن بحق الجميع في حياة كريمة تحقق لهم السعادة التي هي الهدف الأساس لكل مايقوم به الانسان...

.15-6-2009

نشر في مجلة نون العراقية