نافذة

الآثار, والشخصية العراقية Print

الآثار, والشخصية العراقية
                               كيف يريدون لنا أن نكون؟

 بلقيس  حميد حسن

 

لا ينظر العراقي لآثار بلده القديمة والتي تمتد لأكثر من سبعة آلاف عام , على أنها مجرد تماثيل وصلصال قديم أو فسيفساء ملون  وأحجار منحوتة,  ولا على أساس أنها مجرد تأريخ يثبت أصالة بلده وعراقته , ولا تشكل مجرد قيمة مادية من مجوهرات وكنوز ولا حتى مجرد قيمة فنية تتميز بالجمال والموهبة الخلاقة لأجيال سبقته على هذه الأرض التي يحبها , إنما الآثار بالنسبة للعراقي , عنصرا هاما في تكوين شخصيته الوطنية, بسيكولوجيته,  وزهوه بذاته,  والذي تميز به على مدى قرون بل شكـّل جزءا من  الدافع للشجاعة والفخر التي لا تنكر لهذا الشعب, ولربما حتى بشيء من التكبر والإحساس بالعلو الثقافي والتفوق ,  حيث أن هذه الآثار تعطيه ثقة بالبقاء لقرون وآلاف سنين أخرى, وتنطق بالقول :أنك سليل هذه العظمة فلابد أن تكون عظيما.
قد لا يخدم هذا الشعور أبناء العراق, فقد يخلق لهم المشاكل مع الآخرين من أبناء الأوطان الأخرى,  وقد يخلق جبابرة متغطرسين , أو دكتاتوريين يتصورون بأنهم الأعلى والأفضل دائما , حتى في زمن أصبح الفارق الحضاري بيننا وبين العالم كالفارق بين السيف والقنبلة النووية.

عندما يذهب الطفل العراقي أول يوم للمدرسة الابتدائية أول ما يواجهه في قاعة المدرسة هو مسلة حمورابي التي نسخ منها الكثير لتنتشر في اكثر مدارس العراق , تذكيرا بأن أول من أنشا نظام المدارس بالتأريخ كان حمورابي, العراقي,  ملك الجهات الأربع . يفتح التلميذ كتب التأريخ فيجد أن بلاد الرافدين أولى الحضارات وقد أهدت البشرية الكثير مما أسست ,  وأنها أول من أكتشف المضخة المائية ,وأول من بنى جسرا , وأول من أوجد الكتابة , وان أول مدن حضرية بالتأريخ كانت مدن  سومر , وأن بلاد الرافدين أول من صنع العجلة و وغيرها الكثير.

 ثم يقرأ  كتاب الدين فيعرف  أن إبراهيم ولد في أور وكل الأنبياء جاءوا من سلالته, وأن سكان بلاد الرافدين أنقذوا البشرية من الفناء حين غمر الطوفان الأرض , وكان نوحا من جنوب العراق, إضافة الى أنهم قد درسوا بكتب التأريخ  ملحمة جلجامش وهذا التوافق بين القصتين يؤكد مابين التأريخ والدين, ويقوي لدى العراقي الدليل لنشوة أكبر بالتميـّز والزهو,  الدليل الذي  لا يـُكذ ّب مهما كانت محاولات التشويه على مدى قرون من الاستعمار والتبعيات.

يفتح كتاب الجغرافية , فيجد أن العراق بخارطته الجميلة والتي جاءت بالصدفة  وكأنها  رأس أسد متهيب  للوثوب لجهة الغرب - رغم أنها رسمت في اتفاقية سايكس بيكو- يقع في موقع ستراتيجي بين الشرق والغرب , وهو الجسر بين العرب وسواهم من الشعوب وهو الممر لطريق الحرير, طريق الهند  التي كانت درة العالم وقبلته لقرون طويلة, الهند بلاد العجائب والتوابل والمهراجا ت والأقاصيص الخيالية ولذة الحياة التي استهوت أغنياء البشر بالتأريخ.
 ويقرأ هذا التنوع بخارطة العراق من سهول وجبال وحر وبرد وتناقض  وتفرد لا يوجد إلا به , فهو البلد الوحيد الذي ينام أهله ما يقارب نصف أشهر السنة فوق أسطح منازلهم , تحت السماء , يتعايشون مع القمر والنجوم , يصعدون لها ويحدثونها عما يتمنون , يتفقون معها على مواعيد لا يعرفها سواهم , يسبحون اليها بفقرهم وغناهم , فيشعرون برغبة بالعدل , فكلهم تحت السماء واحد, يزيد هذا  من معارضتهم لكل سلطة وكأنهم لا يريدون سلطة عليهم سوى قبة السماء التي ألفوها فتكثر ثوراتهم وتمرد اتهم .
 يقرأؤون أسم (العراق) ويعرفون مصدر كلمة عراقة التي أصبحت معنى مهم بقاموس اللغة , ويقرأون أسم (أرض السواد)  فيعرفون أن نخيلهم المميز بكثافته وجماله كان يشكل –وحده- تأريخا وجغرافية وعلم حياة  لشجر متميز, معطاء , زاهد , يعيش بأصعب الظروف  ويعطي طوال العام حتى كان  للأرض ومن عليها   شعورا بأن لهم ذات السمات ,  وأصبح  للناس مثلا بالكرم والعطاء.
 
يقرأون في كتب اللغة العربية ونصوصها , يجدون أن أشهر مدارس النحو في العراق,  وأن العرب كانوا حين يختلفون بأمر نحويّ يركبون خيولهم متجهين أما للبصرة أو الحيرة أو الكوفة,وأن  أشهر شعراء العرب من العراق وأولهم المتنبي, ولا  أريد أن اسرد قائمة طويلة بذلك, لأنه أمر يعرفه الجميع , ويعرف أن ريادة الشعر في أغلب الأزمان يحتكرها شعراء العراق.
قد يشترك بشعور الزهو بالتأريخ الحضاري الكثير من الشعوب ذات الحضارة العريقة وتشترك الكثير من الشعوب العربية بهذا إذ هي بلدان عراقة أولى  , فكما يشعر المصري- على سبيل المثال لا الحصر-أن مصر أم الدنيا ويكررها دائما وذلك  لعظمة حضارتها وشموخها وتغلغلها بضمير الإنسانية, فللعراقي الحق بهذا الشعور , وهو على كل حال شعور إنساني , لا يمكننا أن نجتثه من النفسية العراقية ,بل يعد  محاربة هذا الشعور,ضرب من الإرهاب, فهذا الشعور قد  شكل لون هذا الشعب على تنوع قومياته وأعراقه ودياناته ,  فكيف بنا اليوم , نراها وهي تجرح بعمق.
 لا يمكن أن يكون العراقي سوى كل هذا التأريخ , لا يمكن أن يكون سوى كل هذه الآ ثار التي سرقت ودمرت , ولا يمكن أن يكون سوى كل نخيل العراق الذي يقطع ويحرق,  لا يمكن أن يكون سوى نهريه وجباله وسماءه القريبة جدا منه, لا يمكن للعراقي  ألا أن يقف بوجه كل من يريد سرقته أو  تغييره وتهجينه ليصبح  شخصية أخرى .
لقد حاول صدام حسين على مدى أكثر من ثلاثة عقود من الإرهاب والتدمير , تحطيم الشخصية العراقية  واستغلال شعورها بالزهو والتميـّز وبالضحك على الذقون حيث  كان يناديهم أبناء العراق العظيم - زيفا ونفاقا إذ كان يقبرهم أحياءا,  يسحقهم ويستعبدهم وينهب ثرواتهم وراحتهم ويصادر حقوقهم لنفسه فقط – ورغم ذلك  لم يستطع أن يغير هذه النفسية المليئة بالتأريخ والزهو,  ولم يستطع رغم كل المقابر الجماعية أن يكسر نفسية العراقي ورغبته بحياة رسمها لنفسه ولو بالخيال وتحت النجوم ,  فالعراقي اليوم  مثل الثور المجنح , رمز العراق ,  لازال يملك رأس العقل,  وطموح الجناحين بالحرية اللامحدودة , ولكنه  جريح  مدمى,  لا يستطيع إلا  أن يبتلع جرحه بصمت إذ أن قدميه عالقتان  بالفخ , وجسده المنهك,  المستلب , لا يردّ عنه شيئا , ليس  سوى الدموع التي تتراقص بريقا, هو كل ما تبقى من زهو العراقي الذي يرفع نظره للسماء أملا بالمجهول, ورغبة بالبقاء.
                                                               15-5-‏2003‏‏-‏