نافذة

العراق والحزن العميق Print

العراق والحزن العميق

 

بلقيس حميد حسن

                                        

   يـُحكى أنه كان هناك مصورا  شابا , يعيش ببلد سعيد آمن , كان يقرأ في كتب التأريخ عن الدمار الذي يحل بالبلدان نتيجة الحروب , لم يكن يرى حربا بحياته , ولم تكن بزمانه فضائيات وصحف عالمية وسهولة التواصل مع البلدان الأخرى  ليرى بشاعة الحرب وجها لوجه, كان يتمنى أن يتميز على أقرانه من المصورين  بصورة فوتوغرافية , يستهويه كثيرا وصف الدمار بالحروب , فكان يتمنى لو يصور مشهدا من مشاهد الدمار بالحرب , كان يعطي الأطفال قطع النقود الصغيرة ليضطجعوا تحت بناية قديمة هدم أهلها بعضا منها  لإعادة بناءها ثم يأخذ بتصويرهم وكأنهم أموات وضحايا حرب ودمار, ودارت الدوائر ومرت الأيام فإذا بالحرب تشتعل في بلده وإذا الشوارع مليئة بالدمار والموت , فيقف هو أمام الهول مذهولا , لا يستطيع أن يصور شيئا , مشاهد  الدمار تتسابق أمام عينيه  ,  الواحدة أفضع من الأخرى , ماذا يصور؟  أنهم أهله وأحباءه , أصدقاءه , وهذه بلادة تقتل , عقدت الحرب أصابع يده , فلم يستطع التصوير , كان خبر الحرب عنده مجرد خبر , اليوم هو يعيشها بكل لؤمها وخبثها وهمجيتها , رمى آلة التصوير وأخذ يتنقل من شارع لشارع يبكي الأموات .
يقول االشاعر ايليا ابو ماضي :

إن للصمت بالمآتم معنى  ×××× تتعزى به النفوس الحزينة

انه الحزن العميق ذاته, الذي يجتاحنا هذه الأيام والذي ما كنا ننتظره ونتمناه , كنا نعتقد أن أهل العراق أذكى من أن يتقاتلوا بعد سقوط من وحدهم بالموت وشربهم كؤوس القهر سنينا بدون تمييز من ديانة أو طائفة أو قومية  , كل ساعة تأتيني فكرة مقالة , وكل ساعة أرى حدثا أهم من الأول , حتى عقد الحزن لساني ويدي , فلم أستطع لأيام أن اخرج بقول ما أريد .
بعد سقوط الطاغوت الأكبر استبشرنا خيرا بوحدة وطنية لكل الأطراف , لم نحلم بديمقراطية تطبق بحذافيرها من أول الأعوام , ولم نحلم بعدالة اجتماعية تنطلق كضوء الكهرباء , ونعرف أن ارث الديكتاتورية وحروبه كبيرة ولا نستطيع أن نقول كن فيكون , أعيد بعضا من مجرمي حزب البعث للسلطة وعينوا وزراء وسفراء تقديرا لهم على جرائمهم ضد الشعب زمن الطاغية , وبلعنا كل ذا الألم وقلنا إنها مرحلة انتقالية نحو الديمقراطية الوليدة , مدركين أننا لا نستطيع اليوم أن نأتي بزعيم أو حكومة ترضي الجميع  , ومدركين أننا لا نستطيع  بعد مرور سنة أو سنتين أن نبني بلدا خال من الفقر والانتهاكات , ومدركين أننا بحاجة إلى مراحل انتقالية كثيرة , فلكل مرحلة أولوياتها واستحقاقاتها  خاصة عندما يتعلق الأمر ببلد مدمر كالعراق  عاش حروبا طويلة الأمد وديكتاتورية مرعبة أذهلت  بهولها العالم , ومدركين أيضا  أن  العراق الذي يعيش بزمن العصور الوسطى تقنيا واقتصاديا واجتماعيا , يحتاج إلى الانفتاح على العالم وهذا يحتاج  لسنوات من التضحيات والعمل الدؤوب ويحتاج قبل ذلك إلى روح التسامح والوحدة الوطنية ووضع القلب على القلب واليد باليد لنتبديء فعلا,  ولنثبت للعالم الذي يحاربنا والذي لعق  قصاع الديكتاتور سنينا ,  بأننا كنا على حق وبأننا نستحق الحرية , وبأننا كنا نموت بالملايين  ولم يسمع صراخنا أحد .
اليوم أسمع أن أتباع  السيد الصدر يهددون بسكب بحر من الدم سيغمر العراق إن تم الاعتداء على سيدهم , وأتسائل مستغربة , أين كان هؤلاء حينما قتل صدام حسين أبيه السيد الصدر الكبير , لم نسمع لهم صوتا ولم يهدد أحد ببحار دم ضد الديكتاتور ,  ولم يعرف العالم الذي يلومنا أن الشعب العراقي كان يعاني من الطغمة الصدامية , كنا نحاول أن نحفر بالصخر لنعطي العالم صورة حقيقية عن نظام صدام لكن صمتهم يسقط  بأيدينا , فيـكذب جزء كبير من العالم أصواتنا ويهملها , ولماذا اليوم فقط أصبح بالا مكان استفزاز الشعب العراقي لتنشق بحار الدماء ويغرق العراق بالموت؟ ألأننا فكرنا بحكومة ديمقراطية وفكرنا بانتخابات وفكرنا ببناء للعراق ليصبح به مثل بقية بلدان العالم المتحضر ؟
مهما كان الخلاف مع الحكومة الانتقالية  , لابد وأن نساعد هذه الحكومة على استتباب الأمن , ولماذا جماعة السيد الصدر من دون كل الأحزاب يحملون السلاح ويعيثون بالأرض فسادا على هواهم ؟ لماذا لم يرضوا أن يناضلوا سياسيا ليحصلوا على أصوات بالانتخابات مثل بقية خلق الله التي تحب العراق وتريد له الخير, إن حل جميع  المليشيات ضرورة لسيادة العراق ووحدته الوطنية  ؟
وأتساءل هنا هل الوطنية وحقوق الإنسان  أن نسمح لإيران بالتدخل السافر بجنوب العراق , وأن تدفع بآلاف الانتحاريين الآتين عبر الحدود أو من  المساكين  اتباع الصدر وهم أبناء العراق  لتدمير أهلنا ووطننا ؟ حتى أصبح البعض يطرح فكرة الانفصال عن العراق ؟ وما ذنب أهالي الجنوب الذين يستغيثون من جيش المهدي ومن تصرفاتهم الهمجية والتي لا تعرف النظام ولا الحضارة , هؤلاء الشباب المغرر بهم والذين  لم تترك الحرب  وحمل السلاح لهم وقتا ليعلموا ما معنى الحياة ليرموا بأنفسهم للموت المجاني  وبدون أي هدف واضح ومعقول  سوى عدم رغبة إيران بحكومة ديمقراطية علمانية  جعلتهم يتمردون ويلعبون بالسلاح الذي صار تحت أيديهم  بدون فهم للعواقب وبدون معرفة الواجب الوطني في هذه المرحلة الخطيرة.
هل الوطنية أن نتحدث عن طرد الاحتلال ونحن نستعمل أسلحتهم ونسير لهم معامل السلاح  لقتل إخواننا من أبناء العراق,  ونعطيهم المبرر لبقاءهم أطول مدة ؟ وهل الوطنية هو الانتحار الجماعي ؟
 لو كانت الوطنية أن تموت الشعوب حتى آخر قطرة دم لتتحرر من  الاحتلال,  لما بقي شعب على هذه الأرض فكل شعوب الأرض مرت بتاريخها  باحتلالات , وهل أن الوطنيين من أبناء العراق طردوا الاحتلال البريطاني سابقا بالتهديد بإراقة بحار من الدماء أو بخطف الأبرياء من الصحفيين والمهندسين والسواق وكل من جاء للعمل والمساهمة بأعمار العراق , أو أن الوطنية تعني  التكاتف مع المرتزقة أعداء الشعب العراقي وفدائيي صدام المحاصرين والذي ليس أمامهم سوى الاحتماء بجهلة السياسة بحجة  مواجهة الأمريكان والموت  بعد انفضاح أمر قائد هم الفذ صدام وبعد أن رأوا صورته الحقيقية الجبانة والذليلة  ؟
وهل الوطنية هو ما يقوم به زمرة ما يسمى بهيئة علماء المسلمين الذين يزيدون النار زيتا ويفسحون المجال لعودة الطاغية وأعوانه , إذ يدفعون المغرر بهم للوقوف أمام الموت المحتم بدلا من أن يثقفوا الشباب ويعلمونهم الحكمة لو كان لديهم فعلا شيء من الحكمة والعقل ؟

إن الوطنية الحقة في هذه المرحلة, هو أن نساعد الحكومة مهما كان خلافنا السياسي معها للقضاء على السلاح المشهور بيد الجهال من  أبناء الشعب العراقي , وأن تكون لنا  حكومة قوية تلملم جميع الأطراف وتتحاور سياسيا معهم ,  الوطنية هو إلقاء السلاح وتركيزه بيد رجال الشرطة العراقية ودعم دورهم للوقوف  ضد أعداء العراق من الإرهابيين من بقايا فلول النظام و جماعة ابن لادن  والزرقاوي  وسواهم من المتسللين من دول الجوار لينهبوا العراق أو ليموتوا بعمليات انتحارية تقتل أطفالنا وتهدم وطننا .
الوطنية أن يقوم الوطني بنبذ العنف والتعامل بالسلاح وحقن دماء الأبرياء الذين يموتون بالشوارع والساحات وتحت القصف , الوطنية أن نلغي من حياتنا لغة السلاح ونتحاور , بعد أن امتلأ العراق بالمقابر, وبعد أن أصبح أكثر العراقيين  أيتام ومشردين ومعاقين وأرامل  وثكالى.

الحكمة تقول: أن الشجاعة في غير موضعها جنون , وكل ساعة يخرج علينا رجل من اتباع السيد الصدر على الفضائيات ليقول لنا  أنهم يتمنون الشهادة , وأنهم يصرون على الموت والمواجهة حتى آخر قطرة دم , لا ادر كيف يسمح إنسان لنفسه أن يعتبر هذا القول قولا حقا يرضي الله ورسوله , وهؤلاء  الشباب الذين لديهم أهل  وأمهات  ينتظرن عودتهم بألف دعوة وحسرة وقلق , يواجهون جيشا منظما وحكومة وقوات لديها امتداد  ولديها أسلحة  لا تحصى ولا يمكن معادلتها بما لدى هؤلاء الشباب المساكين  والمغرر بهم والذين غسلت أدمغتهم بتكرار سماعهم لحادثة شهادة الإمام الحسين  والعزاءات  الحسينية   والظلم الكبير الذي تعرض له الإمام هو وعائلته ومريديه .
 أتذكر أننا عندما كنا صغارا , حينما نسمع مقتل الحسين ونبكي ,  نتمنى أن تتاح لنا فرصة الشهادة  حتى صرنا نحن أطفال الحي نقوم بمسرحية أحداثها مقتل الإمام  الحسين وننشد أشعار المقتل ونكرر الحادثة ونتقاتل فيما بيننا ونصنع من العصي سيوفا  ويصل بنا الأمر حد الجروح الخفيفة , لكن أهلنا  انتبهوا لهذا التأثير فعلمونا معنى الحياة وقدسيتها  وضرورة الحفاظ عليها لما هو أهم وانفع , ولتبقى ذكرى الإمام  أخلاقا ونبراسا ينفع للحياة وتنظيمها لا للموت , إنها جزء من سيكولوجية من يعيش دوما مع حادثة المقتل والظلم ويسمع المزيد من أشعار الشهادة والتضحية في سبيل الدين , إذ لابد وان يتأثر عاطفيا بما لاقاه الأمام الحسين ورجاله , وان الخلاص من هذه الحالة  لابد وان يكون بالوعي والثقافة والعقل , والاحتكاك بواقع الحياة والانهماك  بالعمل والمواهب التي تنفع الفرد ليبتعد عن فكرة الموت,  وللأسف لم يأخذ رجال الدين دورهم بالتوعية وتوظيف شهادة الحسين لبناء عقول حكيمة تميز بين الصح والخطأ وتتعامل مع الحياة على أساس من المنطق والدبلوماسية, وقد ساعدت  ظروف العراق في ظل  النظام الساقط الذي زاد من أحزانهم ويأسهم بقتله وتدميره النفوس والقيم وحب الحياة لديهم على ازدياد حبهم للموت هروبا من الحياة القاسية التي يعيشون حيث لا يجدون لهم مخرجا من المآزق التي تتوالى عليهم  ,سيما وأن أغلبهم من العاطلين عن العمل أو البائسين حد الجوع , كما  لم  تتح ظروف العراق وكثرة أعداءه في الداخل والخارج باستقرار الحكومة الانتقالية  بحيث يتم التفكير بهؤلاء بشكل منطقي قبل أن يستفحل بهم الوضع  ليبلغوا حد الموت  ألان بالجملة  وليكونوا ضحايا  للا شيء سوى رغبة السيد الصدر مدفوعا من إيران بعرقلة بناء نظام ديمقراطي  تخشى أن يكون قاعدة انطلاق لأمريكا ضد الجمهورية الإسلامية التي لا تختلف بتخلفها عن أفكار السيد الصدر واتباعه المساكين من جيش المهدي  المغرر بهم , والتي لم تستطع على مدة ربع قرن من استلام السلطة إسعاد المجتمع الإيراني  وتخليصه من المشاكل التي تعج به والتي  تسير به إلى الانهيار, إذ هم ليسوا رجال سياسة بل رجال دين  سلفيين لم يتفهموا سير التطور بالعالم وكأنهم يعيشون بمعزل عنه,  وستثبت الأيام أن هؤلاء يحفرون بجهلهم قبورا لأبناء شعبهم بعنجهيتهم وعنتريتهم , وعدم خوفهم على مستقبل الأجيال في هذا الزمن الذي لا يفهمون كيف يسير.
إن السياسي الناجح ليس من يقود الناس للموت والانتحار بل هو الذي يتفاوض ويستعمل العقل لحل المشاكل بأقل الخسائر, وأن من يتفاخر بكثرة شهدائه كمن يتفاخر  بجهله بالسياسة وقلة الحكمة والتكتيك , فا لساسية بحر والسياسي من عبر البحر ولم يغرق, وإلا لماذا يقودون أبناء الناس للموت والدمار إن كانوا يجهلون ماذا يفعلون سوى التضحية بهم وفتح قبورهم؟

لاهاي 13-8-2004