نافذة

آل العراق واختلاف الأديان Print

آل العراق واختلاف الأديان

 

بلقيس حميد حسن

في كتاب ضم العديد من شهادات الرحالة الأجانب إلى بغداد , منهم الألماني والبريطاني والفرنسي والأمريكي والسويدي والايطالي وغيرهم الكثير سأذكر منهم ما قاله اوليفيه, روسسو, بوشان , ويلستت, دوبريه, وان كان ذكر أسماء هؤلاء وتسليط الضوء عليهم جزء من وفاءا لهم فأنا سأتجاوزه لوفاء اكبر وهو حديثهم عن بغداد وكيف رأوها في أعينهم.
يقول دوبريه في بغداد عام 1773:
( كانت مساحة ولاية بغداد شاسعة إلى درجة أنها ترقى إلى دولة كبيرة, فتبلغ حدودها في الشمال إلى العمادية ولاية ديار بكر, وفي الشرق إيران والخليج العربي, ومن الغرب أروفة, بئر, تدمر وبادية العرب وكانت البصرة تابعة لبغداد ولم تكن مساحة الولاية ولاسكانها محدودتين تماما) . أما عن سكان بغداد فتتفق معلومات روسسو ومعلومات أوليفيه عن عدد سكان مركز الولاية في هذه الفترة وحسب رواية دوبريه( إن الطاعون قضى على ثلث سكان المدينة في ذاك العام أي عام 1773 وكانت البقية كالتالي
15222 عائلة مؤلفة من 76000 شخص بينها ست عائلات اوروبية وستة يونانية وثمانية سريانية و90كلدانية و112 ارمنية و2000 يهودية و13000 عائلة إسلامية مؤلفة من العرب والأتراك والعجم- والعجم يقصد الأكراد والفرس إذ يذكرهم في صفحات أخرى - , وكان بين المسلمين ولاسيما الأشراف والتجار الكبار من يتظرفون في ألبستهم فيسيرون بفخفخة مرتدين الألبسة المصنوعة من الأقمشة الهندية والشالات الكشميرية. أما النساء اللواتي لم يكن ينزوين في الحرم فهن من اصل عربي ولونهن زيتوني وخطوط وجوههن غليظة وأكتافهن عريضة, ويكثر الوشم على سواعدهن ويحملن حلقات كبيرة من الذهب في أنوفهن وشفاههن......)
إن ما دعاني لنقل حديث الرحالة هذا ليس إلا الفسيفساء المتنوع الذي كان يتألف منه المجتمع البغدادي والعراقي عموما , لان هذا التنوع لم يقتصر كما ذكر الرحالة على بغداد , لكنه تحدث عن بغداد باعتبارها اكبر المدن العراقية وهي الحاضرة الأهم في ذاك الزمان , وعندما تحدث عن التنوع هذا إنما قصد التنوع الحضاري من وراءه , الغنى والثراء الثقافي والاجتماعي حيث تتعايش هذه الفسيفساء مع بعضها البعض باسم الإنسان العراقي الواحد الذي عاش بمختلف الأفكار والعقائد ليبني مجتمع يحقق السعادة والراحة ويحقق الأمان الذي يفتقده العراق اليوم والذي يهدد ليس العراق فقط إنما كل بلدان العالم إذ ينقلون عنفهم بمسميات عديدة ويدعون انهم ينشرون الإسلام حتى في البلدان المسيحية معتقدين إن ذاك هو الإسلام الحق الذي جاء لينظم حياة الناس ويخلصهم من جهلهم وقتلهم للإناث وغزواتهم على بعضهم البعض , وإن ما نراه اليوم من دعوات وأفعال قوى الشر من مدعي الإسلام أو القومية والعروبية التي لا تعترف بوجود أديان وقوميات في العراق , أو التي تريد أن يكون العراق عربيا إسلاميا بحتا , لهو من أشد الدعوات خطرا على كيان المجتمع العراقي وعلى أخلاقه المنفتحة والسمحة التي سادت كل العصور والتي تقلصت واعتدي عليها في عصر استلام عصابة البعث السلطة بالعراق والتي غذتها أخيرا عصابة من مجرمي بن لادن وسواهم من الذين يعتقدون أن العنف وحده قادر على حل الأزمات التي باتت تتعقد أكثر بسبب إراقتهم لدماء الأبرياء وتهديمهم البـُنى الإرتكازية التي يقوم عليها المجتمع العراقي أو المجتمعات الإسلامية عموما وغرس قيم الحقد والتفرقة والثأر والعداء والتحارب بين أبناء الوطن الواحد , وكالنعامة التي تغطي رأسها بالرمال لا يرون الواقع ولا يقرأون التاريخ كما هو , وهاهو البيت البغدادي الذي نجده بالعديد من مناطق بغداد يضم اخوة عربا وأكرادا سنة وشيعة مسيحيين وصابئيين تركمانيين وفيليين وايزيديين ويهود يعيشون تحت سقف واحد , عائلة واحدة , يأكلون من صحن واحد باسم الحب بين البشر إذ وجد الحب مع الإنسان منذ بدء الخليقة , قبل الأديان وقبل الحدود والأوطان , وعواطف الناس لا تعرف الفرق بين مسلم ومسيحي أو يهودي أو صابئي , حتى عشق وتغنى وتزاوج الكثير من الناس فيما بينهم وكم طربنا للفنان ناظم غزالي حين يغني قصيدة لشاعر مسلم توله بامرأة مسيحية حين يقول :

سمراء من قوم عيسى من أباح لها××× قتل امرئ ٍ مسلم ٍ قاسى بها ولها

القتل هنا مجازا عن الحب حد الموت , وهل منا ينسى بيت الشعر الشعبي لشاعر مسلم أحب امرأة صابئية, فترك دينه ليثبت لها كبر حبه, فهي دينه ومعبود ته حين يقول بحرقة :

صُبي يا دموع العين صُبي ××× عفت دين الإسلام وصرت صبي

ويتكرر هذا البيت دوما على السنة الشباب والشابات في سوق الشيوخ مدينتي التي يتقاسمها المسلمون والصابئة إذ يقسمها نهر الفرات إلى صوبين واحد للمسلمين وآخر للصابئة, فالصابئة سكان جنوب العراق منذ القدم حيث الحضارات الأولى وأعرف من سكانها الكثيرين ممن تزوج من دين مختلف , حتى أن أحد أعمامي متزوج من حبيبته الصابئية قبل اكثر من خمسين عاما, وأنجبت له بنات عمي وأولاده وأتذكر كيف أن جميع عائلتنا الكبيرة يخصونها بحب مميز لوفائها وموقفها العظيم من الحب .
إن ما يحصل في العراق من قتل للمسيحيين أو الصابئة المندائيين وسواهم من الاقليات الدينية بالعراق أو من البشر القادمين أليه للعمل والمساهمة بإعادة الأعمار من أمريكيين وإيطاليين ومصريين ولبنانيين وأتراك وبنغال وغيرهم , إضافة إلى القتل على أساس الانتماء لقومية دون سواها لهو رغبة جامحة لتخريب العراق وبناه التحتية تحقيقا لمقولة صدام بتسليم العراق خربة بعد البعث, والانتقام من الشعب العراقي الذي رفضهم ورفض جنونهم وعبثهم الذي عطل تطوره وأهلك حضارته وأضاع الكثير مما بنته الأجيال العراقية بجهدها وفكرها وحياتها من قيم للحب والتآخي والعيش بسلام ومحبة على ارض العراق, ارض التنوع والقوميات والأديان المتنوعة .
إن المتهم الأول الذي مهما اختلف الناس في العالم اجمع على تحديد هويته , لا يخفى على أبناء العراق الذين ذاقوا أنواع القهر والدمار والتقتيل والتهجير على مدى ما يقارب أربعة عقود من الزمان , انه عدوهم ذاته, انه حزب البعث, بمجرميه الذين استبدلوا البدلة الخضراء بالعمامة والمسبحة , وأشاعوا تقاليد متخلفة وبالية بالعراق لينسجموا مع حلفاءهم الجدد من الإرهابيين القادمين عبر الحدود , والذين يشتركون معهم برغبة القتل و يمنونهم بالعودة إلى الحكم مرة أخرى , ولكن هيهات هيهات, فالزمن لا يسير إلى الوراء وهاهم العراقيون يرفضون العنف يوما بعد آخر معبرين عنه بتظاهراتهم وكتاباتهم وصراخهم ونشاطاتهم المدنية الشعبية المتنوعة بوجه المجرمين وتنظيماتهم الاجتماعية التي تطالب بالعدالة والتعايش السلمي مع بعضهم ورغبتهم الحقيقية ببناء مجتمع مدني متطور أسوة بشعوب العالم الأخرى , كما لابد لهؤلاء الديناصورات المتأسلمة أن تفهم الزمن الذي تجاوزهم وحلفاؤهم, وانهم مهما حاولوا بعملياتهم التفريق بين أبناء الشعب وعرقلة المسيرة الديمقراطية والبناء , ومهما حاولوا وضع العصي بعجلة الزمن ستبقى أوهامهم في عقولهم فقط , والشعب العراقي ينهض كما نهضت شعوب اليابان وألمانيا من الأنقاض , فالبقاء للحياة والحب دوما, أما بقايا مجرمي البعث والإرهابيين فما هو إلا نزعهم و رفساتهم الأخيرة حيث لا قيامة لهم بعدها وسيبنى الشعب العراقي وطنه الديمقراطي الموحد حتما, فصبرا آل العراق فالخير قادم.
· استخدمت آل بدلا من أهل, متمنية من أهل العراق اليوم أن يكونوا عائلة واحدة كما كانوا أمام التحديات الكبيرة التي تواجههم وكما انتصروا على مرض الطاعون قبلا, فعلى طاعون اليوم حتما سينتصرون.
10-9- 2004 لاهاي