نافذة

قمر من جنوب الشعر طلّ على السويد Print

قمر من جنوب الشعر طلّ على السويد


صلاح عبد الله


ولَكَمْ طَرِبتُ فما أجدتُ وحسبكم      أني أجيدُ الشعرَ حين أنوح

تذكرت بيت الشاعر الجواهري العظيم هذا،عائدا من برد إلى برد في منافينا الكثيرة مترنما بقصائد استمعت إليها أيام حضوري في استوكهولم قادما لزيارتها من الدنمارك،كنت سعيدا بمصادفتها يوم حضور الشاعرة العراقية المبدعة بلقيس حميد حسن في أمسية وجدت لي بين جمهورها الكبير مكانا شرقيا طاب لي فيه الإصغاء طويلا. مساءَ أثبتت تلك الشاعرة من إنها تعيد بجدارة ميزة الشعر الخالص الذي يضيف إلى قلق الإنسان في الوجود هاجسا شعريا نبيلا تصوغه الكلمات في قيمة دلالية واعية مصرّة على المبدأ بعمق وصفاء.
تكتب تلك الشاعرة في ائتلاف نصي فريد يعزز هويتها في الشعر العراقي،لا كامرأة فحسب بل كمبدع عراقي.
كيف لي أيتها الشاعرة والأخت النبيلة، وما أنا بشاعر ، أن أريك ما فعلته بي قصائد تلك الأمسية..
ليس بيت القصيد من كتابتي أن اكتب فقط 00اردت أن اكتب وابكي معا وأتنفس عبقا من الشعر ظلّ عالقا في دمي يهتف كصوت طارد السياب:  عراق.. عراق.. عراق..
كان ذلك المساء العراقي صرخة سومرية لآلهة من الشعر تعزف فتجيد طربا وتنوح فتقول شعرا،وكأن ما نسمعه قادم من رنين الماضي العذب لشاعرة سومرية قالت: أعطني.. أعطني ماء القلب.
استمعت إلى بلقيس حميد حسن وصفقت من خلل دموعي وفرحي وإعجابي الشديد بأن لنا نساء عراقيات بهذا الوعي وهذا الشعر والحضور..
استمعت إليها لكني كنت اردد في نفسي كلمات شعرية سابقة لها وأحيانا اردد أرائها وهي تدفع بالمرأة العراقية للحضور كحضارة فالحضارة امرأة مثلما صرخت بلقيس بالنساء ليتحدن متحضرات واعيات مشاركات..
يقول الشاعر السومري _ وربما عنكِ قالها أيتها الشاعرة_:
إن هي مَسَّت السماء: فهذا هو الفيض
إذ من الأَعالي تنسكب الأمطار الغزيرة !
ولئن مَسَّت الأرض: فهذا هو الرخاء
كلمتكِ هي النَباتات! كلمتكِ هي الحب!
كلمتكِ هي الفَيض: حياة البلاد جمعاء..
قال الشاعر أما هي ففي ليلتها الرائعة.. نادت: دعوني أغني..
ولم تغنّ..
ولو سقيت جبال حنين ما سقيتْ بلقيس من حب العراق.. لغنتِ ..بل لدكت دكا..ولسجد التوباد صعقا..
 فقد يهون العمر إلا ساعة   وتهون الأرض إلا موضعا..
الساعة امتدت لساعات أما الموضع فتوجهت أليه القلوب محمولة على اكف الشاعرة وهي تلوح حانية في هواء القاعة ألينتشر ضوع العراق فيه..
غنت بلقيس كزورق وحيد طفا على دموع عراقية كثيرة ومشاعر هائلة أعلنت بجدارة ان الشعر في العراقيين أنين أزلي واعتياد..
أعلنت ان بلاد سوادنا غنية بالأصوات والقلوب العظيمة..
وهي في بحث مستديم عن قمرّ كلكامش العراقي:
أبحث في الوجوه
عن قمر ٍ
ما صدّعته ُ جبهة الرياح والأقوال
ولا اشتراه ُ مشتر ٍ بمال
عن قمر ٍ
يُسحرني ويوقد النيران
عن قمر ٍ
لا يكتفي بضوئهِ
يعاند ُ النهار
قمرّ طالما عانق الاهوار ضياءه الفذ،وطالما حمله الأكراد في ترحالهم وألمهم الطويل.. صفقت القلوب نبضا للشاعرة وهي تختتم القراءات الشعرية بقصيدتها" الكرد في المنفى"..

ولكم تجلت واضحة ثمار النضال والعطاء بعيون المناضلة الكبيرة سعاد خيري التي سمعت أنها حضرت خصيصا لرؤية الشاعرة والاستماع إليها.
لقد رأيت المناضلة الكبيرة "أم يحيى" وهي تحتضن الشاعرة بصدر حمل حب العراق وتعذّب لأجله،وبيد كتبت عن العراقيات المناضلات في كتبها الكثيرة،والتي كان من بينها كتاب المرأة العراقية كفاح وعطاء.وهو يحمل في ثناياه إشادة بالشاعرة بلقيس حميد حسن ودرها.
شعرت أن جراحا بليغة لسجن هذه المناضلة طيلة عشر سنوات من حكمها المؤبد قد اندملت ،وعذابا دام لأكثر من أربعين يوما في سجون البعث سنة وصول الطاغية الأهوج قد تلاشت.
وحين تحدثت بلقيس عن سوق الشيوخ وجدتني اعبر في حكايتها الشوارع شارعاً شارعاً والمساءات عاشقاً عاشقاً والبيوت شهيداً شهيداً والذكريات غريباً غريباً..
ولحظة مرّت على سيرة والدها الشاعر عبد الحميد السنيد وجدتني في حضرة قديس جنوبي من رجالات الأمس عامر الفكر والدار بالشعر الأصيل..
أمد القلب إلى كلماتكِ عن هذا الأب ، وعن مدينة هي مهدنا جميعا .
 جاعلا من أمل الكلمة بحق مدينة سوق الشيوخ ذاكرةَ وطن كامل..ففي أناشيدكِ ما يكفي أن ينفتح العمر كله من اجل تعداد فضائل لانهاية لأناس نتعشق طفولتنا بين حكاياهم... وحكاياهم في طفولة تتعشق ماضينا وتستردّنا من الاغتراب الشاسع.
وإنها لدعوى للفرح ،واشتراط جميل لكشف السر لهذا الحضور الهائل للجمهور ،وحضوركِ كأم رؤوم.. وحبيبة وصاحبة حانة .. هل كنت سيدوري؟..أم أنت الأم التي حملت نعش أيامنا عالياً؟عالياً يرفرف في ضباب الخسارات وفي أمل وردة بصباح عراقي سيشرق حتما..مثلما أشرقت في ليل تلك المدينة.
مشرق بكِ أيتها الشاعرة ليت كلّ صباح العراق..
مشرق بالطيبين وألفتهم نخبا عليه طعم الهيل في أقداح العمال والمزارعين...
فثمة ما يصل إلينا في صوتكِ أكثر من الصوت.. وثمة ما وصل إلينا في ابتسامتكِ الجنوبية الحانية أكثر من الابتسام..
ثمة عراق اختصره الشعر ليعالجنا بقرب يليق بكِ
لست بشاعرٍ لأصرخ مستنجدا بالكلام..
لست سوى عراقي استمع ذات يوم إلى بلقيس..
وأبصر القمر بكل جنوب الشعر مضيئا على السويد.

2005
 الحوار المتمدن