نافذة

سجونهم وسجوننا Print

سجونهم  وسجوننا

                                                                 
  بلقيس حميد حسن

                      
  عندما أرى الاحتجاجات  ضد أشكال التعذيب التي يمارسها بعض  جنود الاحتلال  ضد السجناء العراقيين , أشعر أن هناك تغير ما بموقف العالم إزاءنا وإزاء ما يحصل بداخل السجون العراقية , وهذا أمر يعطينا الاطمئنان على  مستقبلنا ومستقبل الأجيال الآتية,  حيث يؤسس لترسيخ مبدأ احترام حقوق الإنسان, لكنني أتساءل هنا  والتساؤل مشروع ومترافق مع دهشة كبيرة واستغراب, وسؤالي هو :
هل لابد من احتلال العراق وتدميره  ليتم الاهتمام بالسجون العراقية  وبحقوق الإنسان؟ والإنسان السياسي خاصة الذي تنتهك حقوقه وكرامته الإنسانية في سجون أخرى  ومنها إن لم تكن على رأسها دولنا العربية والإسلامية هذا طبعا لا يلغي ما يرتكب من فضائع في السجون الإسرئيلية؟
 جل ّ المدافعين عن حقوق الإنسان رفضوا تعذيب العراقيين في سجون الاحتلال الأمريكي وهذه بادرة خير,  نتمناها أن تؤسس  تقاليدا  وأعرافا تلتزم بالمواثيق والمعاهدات الدولية التي تحرم هكذا ممارسات  وترفض  كل أشكال انتهاك حقوق الإنسان بالعراق وبسواه, والتي تنتهك  على مدى  عقود طويلة  على يد مدعي القومية والدين  حيث حمامات الدم وقطار الموت ودفن الشباب أحياء لمجرد تهمة  اهتمامهم  بالسياسة.
ثم بعد مجيء النظام البعث الفاشي إلى السلطة حيث بزّ بطغيانه كل الطغاة,  وتجاوز كل العتاة,  ليسجله التأريخ كنظام للمقابر الجماعية وليلتصق باسمه صورة الرجل الذي يقبـّل جمجمة ابنه بعد فراق سنين وبعد أن وجده عظاما فما كان منه إلا أن وضع قبلته المتلهفة والمنتظرة على جمجمته التي لا حياة فيها , فأي ألم مرير وأي انتهاك فض لمشاعر الإنسان العراقي, هكذا انتهك صدام حسين كرامة وحياة العراقيين , وبهذا الانتظار الأليم  لعظام  أحبتهم عاش أهل العراق سنوات وسنوات ومازالوا يبحثون عن عظمة ٍ  لعزيز لم ينسوه , ولازال الأمل بلقائه ماثلا أمام عيونهم الباكية, وإن كان جمجمة  لا روح فيها يضعون عليها قبلتهم  قبل الدفن , هذا إن حالفهم الحظ ووجدوا له أثرا,  ولم يذّوب هذا الحبيب المغيب  بحامض ٍ,  أو يـُرمى  جسده لتنهشه الكلاب وذئاب ابن الرئيس.
 ورغم كل هذه الأفلام الوثائقية  المرعبة , ورغم ملايين المهاجرين والمشردين في أصقاع الأرض جميعها , ورغم من مات غرقا بسفن ٍ أمل أن تكون سفن النجاة فخذلته وأغرقته , ورغم من رمي على الحدود عاريا بلا إرث أو ذكريات, ورغم الذين جدعت أنوفهم وقطعت أطرافهم وسملت عيونهم , ورغم الخمسة ملايين يتيم فداء لحروب صدام التي ما انتهت  , ورغم كل العداء الذي افتعله مع الجيران ليوسع القائد الضرورة  دائرة كرهه الأعمى ومرضه العضال ,و رغم الفقر القاتل الذي صار أليه العراق وطنا وشعبا من رعونة حكامه وممتلكيه, رغم كل هذا ما كنا قد سمعنا صراخا ولا عويلا  للإعلام العربي أو العالمي , ما كانت حتى منظمات حقوق الإنسان تتعامل معنا كما اليوم وكنا  نصرخ ونصرخ,  نتعذب  ونموت  وحيدين , نحمل قهرنا وأثقال  سنين ٍ ثقيلة ,  لننادي هنا, ونتظاهر هناك  تحت البرد والمطر وغربة المنفى ,  طالبين من العالم وضمائره لتسمعنا , ونعتصم أمام مبنى سفارة , أو هيئة , أو نحتج باجتماع أو مؤتمر ,  نكتب احتجاجا هنا وهناك  ونجمع تواقيع  لنرسلها فتنام في أدراج المكاتب الفخمة , يهملنا ذاك المسؤول ويتهرب منا آخر ويسوف سواه , نريق مياه وجوهنا من أجل وطن أحببناه وشعب يرزح تحت الظلم والرعب سنينا , نستمر بالمحاولة ونأمل ونسير بلا كلل  ونحن نسجل أسماء الذين يموتون من أهالينا  بالمئات يوميا في سجون العراق  وتحت ابشع أساليب  التعذيب ,  فمن المسؤول عن كل هذا الصمت؟
ولماذا كان دمنا رخيصا إلى هذا الحد ؟ لماذا كان الصمت سيد الموقف والجميع شاهد على  ما حصل في حلبجة والأنفال  والجنوب , وصور ما جرى في أيام انتفاضة الشعب العراقي وكيف أن جلاوزة  صدام وعائلته يعذبون العراقيين بأيديهم,  بأقدامهم , بركلاتهم,  وبأخمص بنادقهم,  وبالسواطير يقطعون أوصالهم ويقبرونهم مع عوائلهم  أحياءا؟
ولماذا تذكـّر بعض الكتاب والوعاظ العرب  اليوم , أن يذكروا الناس برحمة الإسلام اتجاه الأسرى الآن فقط , في حين أن حزب  صدام حسين قد قتل  ونكل وعذب بالأسرى الكويتيين وقبرهم مع إخوانهم العراقيين بمقابره الجماعية ولم نسمع  في حينها  ممن يتباكى الآن  ويقلب الدنيا بالصراخ , ويذكر برحمة الإسلام  بالأسرى  كلمة واحدة  بخصوصهم وكأنهم ليسوا بشرا ومسلمين؟ وهل ما فعله المجرم الزرقاوي قبل أيام  حين قطع رأس الرهينة  الامريكي  نيكولاي  بيرغ بطريقة بشعة,  مرعبة , مهولة ,  لا تمت للحضارة والإنسانية بصلة, هل  كان من الإسلام في شيء؟ أم أنه يدافع عن عودة البعث  والطاغيه الذي أفقر العراق  وأغدق على هكذا حركات وعصابات مجرمة بمال الشعب العراقي , لتؤمن له خراب العراق  من بعده وتحقيق مقولته ( أما أن يبقى  هو رئيس العراق أو يصبح العراق  خرابا), وهل أراد المجرم الزرقاوي  أن يخيف بهذه الطريقة كل عراقي يريد بناء عراق ديمقراطي حر لا مكان به لأمثاله من الممتطين اسم الدين والإسلام  ,الذين يكبرون باسم الله ويذبحون البشر ذبح النعاج وكأن الله خولهم لارتكاب الجرائم بحق  العباد  ومنحهم صكوك الغفران؟  وبأي دين يدين هؤلاء المجرمون ؟
 لـِم َ يصمت علماء الإسلام عن بعض الجرائم أو ينتقدها بخجل لكنه يطبل ويزمر ويرفع عقيرته بالصراخ  لسواها ؟ ألا يدعو هذا للتساؤل مع أن حقوق البشر يجب أن تكون متساوية في الأديان والشرائع ؟ فهل نبيح للعربي أو المسلم أن يفعل ما شاء ويقتل من يقتل حتى وان كان أخيه ,  ونحتج على الأجنبي فقط وهل في هذا صلاح أحوالنا وصلاح العالم ؟
 لو كانت الشعوب العربية تريد الحياة الكريمة حقا , وتريد أن تستفيد من تجربتنا المريرة مع الديكتاتورية والموت بالعراق,  وتجنب نفسها مصير الاحتلال والحرب , لابد وإن تطالب جميعها بفتح السجون العربية مثلما  تطالب بفتح السجون  الإسرائيلية  والأمريكية  والكشف عن ما يحدث بداخلها , وتوضيح الحقائق  ليعرف العالم الغث من السمين,  ولابد لجميع المنادين بحقوق الإنسان أن يرفعوا أصواتهم عاليا من أجل استصدار قرار من الأمم المتحدة يجعل الكشف عما يحصل بسجون  الدكتاتوريين أسوة بسجون الاحتلال , مهمة مستمرة ودائمة للصليب الأحمر ومنظمة العفو الدولية, تنظم بجداول و تحدد  خارطة هذا العالم الذي يغفو بعيدا عن التقاليد والمبادئ  الإنسانية التي قننتها وأوجبت العمل بها في مواثيقها ودساتيرها العالمية  , لابد وإن تؤسس البشرية نظاما أرقى مما يحصل اليوم , ليس نظاما  انتقائيا  وغير عادل , ولابد من الحكومات العربية والإسلامية  أن تتفهم ولو قليلا أن فتح سجونها يجنبها ولو قليلا أن تكون لقمة شهية  لاحتلال  أو قوة خارجية , خاصة أن كل ما يجري للعراق يجعل هذه الحكومات متهمة بالتواطيء  مع الاحتلال  بصمتها المطبق على ما حصل بزمن صدام ,  وما يحصل اليوم بداخل السجون العربية والإسلامية الأخرى ,
كما يجب على  الشعوب العربية وحكوماتها أن تتعلم  بعد كل هذا الخراب الهائل الذي حصل ويحصل لنا,  وتقر  بأن الديمقراطية  واحترام حقوق الإنسان , هي الحل الوحيد لمشاكلها ومآسيها.
 ويا عربا, حكاما أو مزيفين  بلحى التقوى , انفضوا رؤوسكم من الرمال ويكفي تغطيتها,  فأنتم  مفضوحون أمام كل من لديه ضمير وعقل وإحساس. 
لاهاي
15-5-‏2004‏‏-