نافذة

الكويت في طفولتي Print

الكويت في طفولتي

 

 بلقيس حميد حسن

                                      
في البداية , لابد من أن أقول أنني لم أكتب هذا استمالة لأحد أو الطمع بشيء ,لكن هناك من سألني في أحد اللقاءات الشعرية عن موقفي من الكويت بعدما حلّ بنا وبه,  فوجدت رغبة كبيرة بالحديث عن طفولتي, وعشق الطفولة عاطفة إنسانية لا يمكن للإنسان اجتثاثها من حياته حتى لو لم يحبها , فكيف به إذا أحبها مثلي؟
للكويت في طفولتي وربما طفولة الكثير من أبناء الجنوب العراقي بستانا محفورا بعمق الذاكرة التي لا تمحي مهما طال الزمن,  وللذكرى في حياة البشر ما يعطي لشخصيتهم بعض السمات الخاصة , التي تشكل ملامح تلك الشخصية ومكانتها مستقبلا.
كنت صغيرة جدا , وقبل سن المدرسة  عندما كان أبي يذهب بدعوة من المثقفين إلى الكويت لإ لقاء الشعر وللقيام بمجالس دينية وفقهية, كان أبي يعود بعد أسبوعين محملا بالهدايا لنا كعادة جميع العرب حينما يسافرون يحملون الهدايا لأحبابهم, كانت هدايا جميلة جدا , فيها ما يدهشنا نحن الصغار, أتذكر مثلا مرة إجتمع حولنا أطفال الشارع لأن أبى أحضر لنا أنا وأخوتي , الأكبر والأصغر مني , أحضر لكل واحد منا لعبة هي  ولد يركب دراجة لها مفتاح (زمبرك) نعبئه ونضع الدراجات في صينية كبيرة والدراجات تلاحق بعضها ونتسابق بها, أصبحت ألعابنا هذه حديث الأطفال في الشارع وكأنها آتية من القمر, وتتكرر سفرات والدي للكويت وتتكرر الهدايا الغريبة والجميلة, حتى صرت أعتقد – وأنا الطفلة - أن كل شيء جميل يأتي من الكويت , حيث جاء اعتقادي انطلاقا من عالمي الصغير .
وحينما شاع التلفزيون في العراق واشترى الناس  هذا الجهاز , كان بث  تلفزيون بغداد لا يصلنا نحن في سوق الشيوخ,  فكان أول تلفزيون رأيناه هو تلفزيون الكويت, كنا نجلس أمامه من ابتداء البث حتى انتهاءه, نحفظ المسلسلات ونحاول تقليد الممثلين, وكان عبد الحسين عبد الرضا وسعاد عبد الله  وسواهم  أبطالا لمسلسلات أحببناها وانتظرناها ساعة بساعة, نحفظ الأغاني الكويتية, ونحفظ أسماء الممثلين ونحبهم, إذ كنا نمثل أدوارهم باليوم التالي بالمدرسة ونوزع أدوارهم فيما بيننا كما نحب,  وكنت دائما أفضل دور سعاد عبد الله لأمثله أمام الأطفال, لم أنس أغان عوض دوخي والذي أحبه كثيرا وقد  سجلت له قبل أشهر برنامجا التقطته من إذاعة الكويت , لم أنس أغنية صوت السهارة التي أحتفظ بها دوما معي وأحفظها  لأنني أسميها الأغنية الخالدة, ولن أنس أن هذا الفنان هو أفضل من غنى لأم كلثوم بل هو أبدع في أغانيها أكثر منها بدفء صوته الذي يتهادى كدفء الخليج وبموهبته الموسيقية النادرة والأصيلة,  لن أنس شادي الخليج وصوته الأخاذ وحسين جاسم وغيرهم الكثير أحفظ أسماءهم وأغانيهم.
كل هذا شكل جزءا كبيرا من  ذاكرتي وبالتالي حبي الكبير لهذه الذكرى والبحث عن ما يستفزها ويعيدني لتلك الأيام التي أحب, ومن منا لا يحب أيام طفولته؟ , فسنين الإنسان الأولى هي التي تبقى أبدا وماعداها يشوبه الضباب وألوان النسيان, كما أنها تكـّون مدى ارتباط المرء بالأشياء والأشخاص, بل هي التي تشكل ذوقه العام , والطفولة فيها يتشكل الإحساس بالوطن , والإحساس بالقرب أو البعد من أي نوع من أنواع وأنماط الحياة وما يعترضها وما يؤثر بها , طبعا هذا إضافة إلى القربى التي تربط أهل الكويت والعراق ببعضهم  خاصة أهل الجنوب العراقي  ولنا هناك قربى نحبهم , فاسمحوا لي أن أتذكر وأذهب بذاكرتي بعيدا لأتخلص ولو من جزء بسيط من الشعور بالإحباط والمرارة التي خلفها طاغية العراق الساقط, دعوني أسافر حيث لا حدود للذكرى ولا جوازات ليكون الحب وبراءة الطفولة طائرتي وجوازي, ومساحة ما أعانيه دافعي لهذا السفر, 
لأتذكر حينما كنت صغيرة , كان شعري أشقرا وقد نظم والدي قصيدة  بشقرة شعري وكان يطلبني أمام صديقه الكويتي أبو محمد لأقرأ له هذه القصيدة التي حفظتها من أبي,  وأنا اهرب لأنني أخاف من لحيته الطويلة, كنت في الرابعة من عمري وعندما أسمع أبي يرحب بأبي محمد عند الباب,  أهرب لأ ختبيء في مكان ما من المنزل لا يتوقعون وجودي به مثل خزانة أمي الكبيرة, لم يكن لأبي لحية وكان أبو محمد ملتحيا وعندما كبرت وأصبحت في المدرسة كان يذكرني بهروبي منه ويقول لي هل لازلت تخشين لحيتي؟
كان يضع ألمغريات ليسمع مني قراءة الشعر, ويقول سأشتري لك حلاوة مسقطية , وساشتري لك لعبة تحكي وتحرك رأسها , لكن عنادي وخوفي جعلاني  أصر على أن لا أواجه لحيته الكثيفة, وليتني فعلت لو كنت أعلم أنه سيرحل مبكرا.
أتذكر بعد مدة من الزمن, حين رأيت أبي يبكي وأمي تحاول أن تخفف عنه , وهي لا تستطيع إخفاء حزنها, حين بلغهم وفاة أبو محمد , كان من أعز أصدقاء أبي .
إذن وجدت السؤال يجرجرني, يحاصرني ثم يطلقني, يستفزني بجرح يترك باقة ورد وعناق,  أي سؤال هذا؟  هل يسأل المرء عن سبب حمله حواسه الخمس ؟ أو لماذا لم يتخلص من حاسة منها؟
الكويت بالنسبة لنا بلدا شقيقا هو أقرب البلدان لنا جغرافيا وتأريخيا واجتماعيا, شكل حبه جزءا كبيرا من طفولتنا وكينونتنا,  لذا كان الجرح عميقا حين حل ّ بين الأشقاء ما حل ّ وكما قال طرفة بن العبد:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة
على المرء من وقع الحسام المهند
وهذه إحدى الجروح التي تفتح بين الحين والآخر, والتي لازال بعض الناس يجادل بها  والتي ليس لنا بها  نحن شعب العراق المغلوب على أمره يدا,  ولا لأهل الكويت الذين شاركونا قبورا من  مقابرنا الجماعية  يدا بها أيضا.
                                                              لاهاي/هولندا
                                                               12-9-2003