نافذة

محطات عند مخاض مريم Print

محطات عند مخاض مريم

عقيل محسن الفتلي

ماجستير تخطيط تربوي
مؤسسة افاق للدراسات والابحاث العراقية
18/6/2008

  

الشاعر – كما يراه زكريا إبراهيم – عنصر من العناصر التي منحته القدرة على إدراك الروابط المفقودة بين الأشياء وإعادة خلقها، فهو اذا ما مضى في عمله الإبداعي يصبح نفسه أداة في يد الفن وأداة في يد القوة الإبداعية التي تسكنه.(1)
ونجاح الشاعر يقاس بمقدار موائمته بين تجربته وقدراته الفنية اذ لا يعمد الى نقل الواقع بتسجيلية وإنما يعيد خلق هذا الواقع بما ينسجم مع الأحاسيس التي تنتجها تجربته، فالشاعر يتعامل مع الواقع من خلال تفكيك عناصره وخلق روابط جديدة يجمعها، والفن ليس مجرد مرآة، بل هو منظار من نوع خاص يعرض لنا حقائق في أثواب ملونة جديدة قد تغير من شكل الحقائق، ومن حجمها بل من وجودها الزماني او بعدها المكاني. وصدق التجربة الشعرية لا يعني مطابقة الواقع ولكن صدق الوجدان هو الصدق المطلوب في التجربة. ويرى الناقد محمد غنيمي هلال انه (ليس من الضروري ان يكون الشاعر قد عاش التجربة بنفسه بل يكفي في بعض الأحيان ان يكون قد لاحظها وعرف بفكره عناصرها وآمن بها ومن ثم انفعل بها وتأثر بفكرتها وظروفها ومن هنا نحس بصدق التجربة)(2).
ولعل ابرز ما نخرج به من انطباعات خلال قراءتنا للمجموعة الشعرية التي تحمل عنوان (مخاض مريم) للشاعرة العراقية المغتربة (بلقيس حميد حسن) في انها لوحة شعرية أمينة غنية بالتجربة الحياتية والإنسانية الخصبة امتدت زمنيا خلال عام (1997).
لقد استوعبت الشاعرة عبر تجربتها الشعرية أبعاد قضية شعبها ووطنها المحاصر دوليا بموجب القرارات الأممية المجحفة وداخليا من (دولة المنظمة السرية) لذلك جاء شعر المجموعة ينبض بقضية الإنسان العراقي وتقف في مقدمتها المرأة العراقية المستلبة على الكل الجهات، ذلك الجرح النازف، المكبلة بقيود الفقر والأمية والتخلف وأسلاك الحزب الحاكم بعد ان سلبها واحد أو أكثر من أهلها (الأب، الأخ، الزوج، الابن).
وما الحب الذي يفترش المجموعة الا ردة فعل ايجابي تجاه إشاعة مفاهيم الكره والخوف التي عاشها العراقيون وبشارة من الشاعرة بغد تسود فيه المحبة والإخاء.
والشاعرة تؤمن بان للكلمة دور كبير في التعبير ووسيلة في التعرية وقنطرة عبور الى مستقبل ملون. لقد استوقفتنا محطات هذا المخاض الشعري:

*المرأة:
انحازت الشاعرة الى جانب المرأة ليس بدافع وحدة الجنس بل لرفضها كل أنواع الاستبداد لذا عبرت عن استلاب المرأة وقهرها ومظلوميتها التي هي جزء من حالة الاستعباد والقهر الجمعي للشعب العراقي الذي ساقتنا له قوى (الثورة العربية جدا).
فكل قصائد المجموعة منشور تحريضي نحس من خلالها بفداحة الظلم ولا نقدر أن نغطي سوءة الاستبداد وحينما تقهر المرأة باعتبارها رمز الخصب والحياة ((يشعر من يسيطر عليها إنما يسيطر على الطبيعة نفسها))(3).
وتتجلى مواقف الشاعرة من منظومة القهر في القصيدة المطولة بفاتحة المجموعة ((تهاوين قبل الأوان)) فتجد المرأة كائنا غير مرغوب فيه لا تتمناه الأسرة في الوقت المظلم:

أتت أنثى
مخاضاً كان كالموتِ
ووقتاً مظلما
حين التقت عين المولّدة
بذاك الشيء للمولود
تخفي مثلما تسرق
تلعنها بتمتمة
أتت أنثى

إذن هو امتداد للزمن الجاهلي {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ…}[سُورَةُ النَّحْلِ : 58] ومعلوم إن الزمن عنصر غير محايد في أية معادلة ولم تسقطه الشاعرة من حسابها. وتصور لنا حينما يتعاون الاستبداد والفقر في تشكيل حياة المرأة العراقية بلوحة قاتمة ترسمها لنا بالكلمات:

ها هي تجلس عند السرير
ترفع فقرا
بلون الثياب
تدندن
(جم دوب توفي يالوح
مدري أدكننك دكن
مدري اشربنك فوح)
هو العيد جاء
بزوج مريض يريد حساء
وأطفال جوعى
فأين الجديد؟
وأين الفرح؟
وتأتي كبيرتها في المساء
في يدها كتبٌ
يعدم قارؤها
يقطع اذا ما اكتشفوه

هو ليس كعيد المتنبي الذي افتقد فيه أحبته ولكنه عيد يعتصر المرارة ويسقيها للعائلة وحين تبحث الأسرة في امتدادها اللاحق البنت (حليمة) عن خلاصها صوب الفجر المنشود حين تبدأ رحلة الوعي بالقراءة والقفز فوق أسوار الممنوع:

حليمة؟
تريدين موتي؟
هاتي الشياطين احرقها في الظلام
واحرق رأسك ان تقرئيها

ويأخذ الاحتجاج على جدلية الاستبداد/ الفقر شكل عتب ومناجاة بصوت خفيض لمن لا يملك الفقير ملجأ سواه:-

إلهي
أأ ذوي من الفقر او في السجون؟
أذلك عدلٌ؟
وتجهش
مثل رقيق الزجاج
يُكسر في صدرها ويُدكُّ
على جرحها ببرود

وتوقظ الشاعرة خزين ذكرياتها منذ بواكير الطفولة في جنوب العراق حيث تمثل أمامها شاخصة غير مهجورة في زوايا النسيان فتؤرقها وتتعبها الهواجس وتقع تحت ثقل حساسية شديدة فلا تستطيع ان تحس بالحياة وديمومتها دون ان تحس بعذاب الآخرين فتجسدها رؤىً وكلمات سوداء.

*الحب:
ليس جزء من كيان الشاعرة فحسب بل كأنه شخصٌ آخر تلجأ اليه، شخصٌ غير واضح المعالم والأبعاد تبادله العاطفة وتخلق منه حالة التوحد بين الذاتين، هي هائمةٌ في بحثها واستخدام أدواتها تعويضا عن الحب الذي تكتنزه للإنسان والخير والفضيلة وتقابل الأضداد مع سياسات الكره التي انتهجها النظام السابق مما خلق اختلالات في التوازن العاطفي وتصير أدوات البحث عن الحب مجموعة من النداءات تطلقها الشاعرة في شتى الاتجاهات:

عبث الشوق كما الطوفان يهدر
وأنا
بعتُ تواريخ حنيني
بمساءات اللقاء
زارني حبك فانهالت عطور الياسمين
فوق أغصان فؤادي
دع فراشتي تلهو
اسقني
جف رحيقي

فالحب بمعناه العام حينما يخرج من العلاقة بين الرجل والمرأة يزداد تألقا وتميزا ولا يتلاشى او يضمحل في ذات المحبوب وهو فاعل ومنفعل وليس تابعا او متبوعا.
وابرز ما يلفت الانتباه في بناء البيت الشعري ان الحركة فيه مقصورة على الحب، فهو منبع الانطلاق في آفاق الحياة وتحديد هويتها واتجاهها وبدونه تنتفي الصفات التي حددتها الشاعرة لنفسها. ان تركيز الشاعرة على الحب في قصائدها يأتي من اعتبارين أولهما التضاد مع قيم مملكة الكره والرعب التي أقامها النظام البائد وثانيهما محاولة بلقيس إلغاء الفارق المكاني الذي يحول دون تواصلها مع الوطن والأهل والأحبة الذين دونهم مسافات طويلة وحراس، فتسامى الى ما هو ابعد من حدود العاطفة:

متى التف بحنانك
وامسك الزمن؟
ها أنت ذا
محيط دائرة وانا المركز
تحيطني ولا تلمس
أراك والطريق عسير
أكاد استظل
بشيء من أقواسك
يلكزني ذكر اسمك
تآلفت الليالي ورنينك
تزاوج الاثنان
وبقيت وحدي

تتداخل عاطفة الشاعرة ووجدانها لهذا امتزجت فيها أحاسيس شتى فامتزج الحب بالحزن والغضب والأمل والمكابرة وظهر الوطن لوحة خلفية لهذه العواطف يطل من بين القصائد.

*الغربة:
ان امتداد جغرافية الغربة أفقيا والنأي الزمني على الوطن عموديا كسى القصائد نبرةٌ جريحة تبرز لوعة فراق الأحبة وشدة الحنين واستحالة العودة لوجود المتبقين من عصور الهمجية في السلطة وحيث الرماح بني مازن قادرةٌ ان تفتك فينا، لذا لا تمتلك الشاعرة سوى التمرد والحنين:

فالغربة
ضعفٌ وتحدٍ
والفجوة بينهما ظلٌ
لمَ لا ؟
هل حانت لحظة مشنقتي؟
وأنا وحدي
أتلاعب في هجر الروح
أبقَ
ياريح أحبائي أبقَ
فالمنفى ثلجٌ

لكن الغربة في المنفى غليظةٌ قاسية تأخذ أبعادا أقوى واعنف حينما لا تجد من يهتم بك او بشكواك كحوذي (تشيكوف) حين يكون الشوق في أقصى مداه ويكون الحبيب ((الوطن)) مسوراً بالأسلاك ومحاطاً بغلاظ شداد يصدعون بما يؤمرون، أدوات تنفيذ مشيئات بطل تحرير ((الجحر)) :

حديد المحطات
ينث حنينا.. دما
جمّده وداع سنين المرافئ
واجتياح الهدير
هي الزمن الضاع مني
رقاب الليالي المدلاة
اجتراح الأمل
فيما يشف
وفيما يغيم

ومبعث الغربة عندها تفاوت ما بين الغربة بمعناها المكاني واغتراب الروح في الوطن البديل وإسقاطات ذلك على شخصيتها التي تجمع حساسية الشعراء الذين يحلمون بوطن يحترم فيه الإنسان وحقوقه والغضب الذي يتجمع في النفس جراء ذهاب الأحلام ومعها الأهل والأحبة كل ذلك في امتزاج عراقي حميم. لكن هذه الغربة لا تقتل في الشاعرة الأمل اذ تلجأ للمكابرة الرائعة والعناد الثوري بوجه اليأس.

*التمزق:
ويأخذ أبعادا شتى، تمزق نفسي داخلي جراء الغربة والبعد عن الأهل وتمزق خارجي يشظي المجتمع والوطن. فالفرد العراقي المسالم يخشى المخبرين والمناضلين (كذا) والموت الذي يتربص به في كل لحظةٍ، أليس هو مشروع استشهاد دائم دفاعا عن التاريخ والجغرافية والماضي والحاضر.. واللاشيء؟ وفوق هذا وذاك (يجاهد) الحصار والجوع الخوف والأقدار المرتبة انه صراع ازلي من اجل البقاء:

نُباد
ذبابٌ ضارٌ
نُباد
بالسموم
نُباد بأسلحتهم الكيماوية
نُباد
كردٌ
عربٌ
تركٌ
فرسٌ
وبدون
أقوام تعترك لتحيا
وجيوشٌ تعترك لتقتل
والحب يدوم

او ينشأٌ التمزق جراء انغماس أولي الأمر منا بمصالحهم الذاتية وانشغالهم عن هموم الناس ومشكلاتهم وتنمو الفجوة بين الحاكم والمحكوم ويتسع الخرق.
وقد يكون التمزق اجتماعيا ناجما عن الفقر وما يتبعه من الإحساس بوطأة الحياة وقساوتها و اللاجدوى من استمرارها وعبثية الأقدار. او يكون التمزق جراء استلاب المرأة حريتها وكرامتها باعتبارها أنثى عليها (التصبر والصبر والاصطبار):

هل تذكرت العبد؟
العبد الذي حمل الحجارة.. وبكى
الحجارة ثقيلة
أرهقت قلبه
فأقعى ومات..
كنا والدموع
مثقلين نعود
تقول اللعنة على الملوك
اللعنة على القسوة

*الموت:
فعل كوني يشغل مساحة التفكير البشري منذ بدء الخليقة وامتداداتها عبر منظومة الزمن في الماضي والحاضر والآتي وفي كل بقاع الدنيا ورغم تباين المعتقدات واللغات والبنى الثقافية والرؤى الفلسفية والفكرية، يبقى الموت فكرة وفعلا مثار جدلٍ وتفسير وتحليل لا ينتهي ويبقى هاجس فزعا وحيرة كامنة في مناطق اللاوعي الجمعي من التفكير البشري يؤثر في الدوافع السلوكية وهذا يشير الى ان الموت ركن أصيل وأساس في تكوين الوعي وتحريك الواعد الإنساني وعليه تمتد وشائك صلة دقيقة بين الموت والشعر تجعلهما قريبين من الفطرة الإنسانية التي ترصد الحياة في أبعادها المختلفة مدركةً أصالة الموت وحتميته في حياة الإنسان والإحياء عموما، وهنا يأتي دور التجربة الشعرية التي تحاول ان تميط اللثام بحدسها عن مكنون العناصر الحياتية الغائرة في زوايا النفس كاشفةً بنية تكوينها وتنويعاتها وعناصر البناء والهدم فيها في إطار جدلية الموت والحياة التي تأثر تأثيرا عميقا في تكوين الرؤية الشعرية الإنسانية في سياق تجاربها المتعددة على اعتبار ان الموت عنصر فاعل في تكوين هذه الرؤية. والموت تهيمن سلطته على مساحة عريضة من تجربة الشاعرة الشعرية وتتسع دلالته لتتجاوز معناه المتداول – مغادرة الروح الجسد – الى حيث تشمل دلالات الهدم والإخفاق والاستلاب والسكون وكل المعانِ المضادة لدلالات البناء والحركة المتنامية صوب الحياة بأبعادها المختلفة:

وأعلك الرحيل والضياع
يبتزني الحزن مع المساء
الموت اقرب الأشياء
فيا رياح الموت ارمِ قاربي
برغبتي أموت
أكون في شمس الرقاد مستحيل
والليل في الصحو وفي الجنون

وتتغير دلالة الموت العدمية بفناء الجسد الى دلالة بناء وإعادة ولادة الحياة عبر أفعال التغيير التي بالرفض والتمرد حتى تصل الى الثورة ويصير الموت الفردي ميلاد جماعيا كما يجسده استشهاد ((شقيق الشاعرة الصغير ) بانتفاضة الشعب العراقي وإرهاصات التغيير التي طالت الوطن فيما بعد.

*التضاد:
تظهر الشاعرة لغتها على غير المألوف، فالتضاد عندها لا يعني تقابل الأشياء سلبا أو إيجابا بل ان تقيم علاقات معنوية لا تحقق واقعا بل إنها تريد إبراز فكرة اتحاد الأضداد:

تكومت البيوت أحجارا
سعد الموت
اسقط التماثيل
ونصب الجثث
...................
وحين حريق النفط
أطلقت الشعلة
اسودت الوجوه
تنفس النخيل ثقيلا
شحبت خضرته
وبالأرق أصيب

فالتضاد حالة ضجيج داخلي والموت في النص يفضي الى الحزن القاتم والفعل (اسقط) يتضاد مع الفعل نصب وان التماثيل والجثث كلاهما بلا حياة والشعلة في المقطع نفسه تعني النور والضياء ولكنها لا تنور الوجوه المسودة.
ويلقي التضاد ضلاله على المجموعة الشعرية من خلال علاقة الشاعرة بوطنها فنلمس الوطن في علاقة تضاد مع أبنائه ولا يعني هذا نفي حب الوطن العراقي وإنما يعود في جوهره الى شعورهم بالغربة فيه والحنين اليه ونرى ذلك جليا عند الكبير الجواهري في (يا دجلة الخير) وعند المبدع السياب في (غريب على الخليج) وعند البياتي وبلند وشاعرتنا ليست بعيدة عنهم.

*التكرار:
ومن مظاهر التكرار في المجموعة الشعرية تكرار الأفعال الذي يعطي للفعل تأثيرا اكبر وقوة وعمق فتكرار الأفعال بسطوع يمثل رغبة أكيدة في الحياة:

هكذا أنا راقصة أعواد قلبي
محكومة بالعشق مدى الحياة
تتآمرون عليَّ.. واعشق
تقتلون أيامي.. واعشق
تسرقون أفراح طيوري.. واعشق
تجتمعون جميعا
لتخيطوا لي عباءة سوداء
تلفون بها بياضي.. واعشق
تنسجون عني الأقاويل
تريدون استباحة بهائي.. واعشق
تطرقون بابي لتدخلوا القلق.. واعشق

فتكرار الأفعال قد أعطى بعدا كبيرا لتحدي سلطة التقاليد والأفعال هنا تعطي المتلقي انطباعا بعمق معاناة المرأة الشرقية حينما يتسلل اليها الإحساس للرغبة والعشق. ان تكرار ابرز بصورة واضحة المشاعر الدفينة والهواجس التي تنتاب المرأة بطريقة الإيحاء بعيدا عن الإيقاع الخطابي. ومن المعلوم ان التكرار ((يضع في أيدينا مفتاحا للفكرة المتسلطة على الشاعر وهو بذلك احد الأضواء اللاشعورية التي يسلطها الشعر على أعماق الشاعر فيضيئها بحيث نطلع عليها))(4).
وعموما تتسم قصائد المجموعة وتتميز للاستعارات والتشبيهات هي أدوات الشاعرة في توفير القدر الضروري من الشعرية لهذه الصرخة/ اللوعة التي لا تجنح فيها البساطة الى الابتذال ولا تسمح بتسلل ما يعكر ذلك الاحتجاج الذي تنتظم عبره الكلمات لتشكل أغنية حزينة تعتمل فيها ثورة عارمة نابعة من نفس حساسة مهداة الى وطن يذبح بالتقسيط، تجنبت ما هو فج وناءت بعبء لتنتقي ما هو أنيس أليف محبب من الألفاظ وحسبها انها ترى الشعر بساطة رائعة. ان جنوح الشاعرة الى استخدام لغة قريبة من لغة الحياة اليومية دليل مقدرتها الإبداعية اذ يتفاعل القارئ مع الوضوح والبساطة التي تهز الأعماق وتترك انطباعا في النفس لا ينمحي بسهولة ((فالشاعر قد يجد كفايته في كلمات نادرة او مهجورة او لهجات محلية ولكن الكلمات الشائعة تحرز أجمل الانتصارات في الشعر وقد يرجع ذلك الى قدرتها على تنشيط المعنى والى جانب طبقات المعنى ميزة أخرى هي الصفة او الصوت المتحدث او الإشارة الديناميكية))(5).
الشاعرة بلقيس تقتبس من القرآن الكريم وتختزن الماضي وتكتنز طاقات فكرية حفظها الزمن وموروث فيض الأنهار، عالم زاخر بالرؤى، هندسة بديعة لصور متشابكة متداخلة ذاب فيها الزمن واختلط الحلم بالواقع واقترب الوهم من الحقيقة انها عصارة التجربة وروع الزمن فكأن الشاعرة تختزن تجربة القهر العراقي منذ الأزل. نلمس القصائد لوحات زيتية او قطع موسيقية تلف الروح بألوان غامقة هي بمجملها صرخة بوجه الضيم العراقي اللانهائي، لم تسقط في خطابية صارخة بل بشارة حب سيأتي فيما بعد.


الهوامش:
[1] ابراهيم، زكريا (مشكلة الفن) القاهرة مكتبة مصر للطباعة 1976ص169.
[2] هلال، محمد غنيمي (النقد الادبي الحديث) القاهرة – دار النهضة العربية للطباعة والنشر 1979ص364.
[3] اودونيس (مقدمة في الشعر العربي) بيروت – دار العودة ط4 1983ص16.
[4] الملائكة، نازك (قضايا الشعر المعاصر) بغداد – مكتبة النهضة 1965ص243.
[5] ناصف، مصطفى (مشكلة المعنى في النقد الحديث) القاهرة – مكتبة الشباب 1965ص134
.