نافذة

اغتراب طائر الفينيق Print

اغتراب طائر الفينيق

علي موحان الغانم

يقول باشلار: "حين تجد نفسك مرغما على إعادة كتاب قرأته للتو فأعلم انك أمام كتاب يستحق القراءة"..وبالمصادفة وصلت الى يدي مجموعة شعرية وجدتني أعيد قراءتها لمرات عديدة،انها بامتياز وجدارة تستحق كلمة باشلار. المجموعة كانت "اغتراب الطائر" للشاعرة العراقية بلقيس حميد حسن والصادرة في عام 1997.
تعتمد الشاعرة بلقيس حميد حسن على لغة غاية في الشفافية والوضوح،انها تكتب بالسهل الممتنع الذي يأخذ حصانة وصوله الى ذائقة القارئ الدؤوب على الأدب الأصيل. أما موضوعاتها الشعرية والأرض التي تخط عليها فضاء القصيدة فهي متنوعة وضاجة بالجديد والحيوي..وفي كلّ نص من نصوصها ستجد عالما هائلا تعالج فيه الفكرة الفلسفية والهم الاجتماعي بطواعية وثقة تقف خلفها امرأة تعرف أسرار اللغة وانثيالاتها الكثيرة.
تبدأ الشاعرة مجموعتها الشعرية بنص "الى أهلي" وتنتهي بنص "عراق".. وبين هذا النص وذاك يبعث في كل حرف ظلّ للعراق الحلم في ماضيه وحاضره ويكون الطقس الشعري مفعما بالحنين الى تلك اللحظة العراقية التي ترتجيها الشاعرة وتكتب لأجلها:
"كتبت لك الكثير
وبكيت في كلّ الحروف
جبلتها بدم الحنين"
ان للحنين هذا دم عراقي جف كأهواره،وأصبح للطفولة أنغامها المستعادة في الحكايا كتهويدات أم ساعة الرقاد..خلف جدار من السنوات يحلق طائر الذكرى متزينا بالأغاني والأمل..على أجنحته يرقص قلب أب او دمعة أم عليها صورة وجه محمرّ بالخجل..
لكل عراقي ما يذكّره عميقا ببلده دون أي منفي آخر.. فالنخلة ستحضر كرمز أزلي للحزن حتى تصرخ الشاعرة:
"حزنك يتآمر عليّ
ويبددني حتى آخر انحناءة لنخيلي"..
انحنى النخل ومات واقفا في عراقيته سنوات طويلة. كان فيها مُغتربُ هذا الطائر شاقا وحزينا..ولكن ما الذي يفعله حزن امرأة شاعرة تقف كشمعة وحيدة في الريح أمام ساعة ظامئة الجنون تدفع بالسنوات سريعا.:
"...وقد أكون او لا أكون،
امرأة النيران
امرأة الرماد
امرأة القلق"..
حزين،دائما وأبدا، سفر العراقي ، وفي رماد ترحاله يبدد الصمت بالغناء،و يتناثر العراقي في مواويل وأغان لا يفهمها غيره..
ذات سفر كنت في سوريا، وفي يوم عودتي الى العراق،قررت الذهاب الى مكتبة ما للتزود بمتاع للسفر، فأن لي في القراءة ما يذهب الم الجوع أحيانا ويروي ظامئي..دخلت مكتبة السندباد في دمشق،ووجدت هذه المجموعة الشعرية.
قلت ستدخل قصائد هذه الشاعرة معي الى وطنها وهي في اغتراب ونفي لا اعلم نهايته .. ترى أين هي الآن؟..
قرأت أولى القصائد وكنا بعد لم ندخل الحدود.. توقفت وقلت مثل هذه الكلمات جديرة بأن تتناثر كحبات ملح وديعة على ارض العراق..
ومن كاسيت في جهاز تسجيل أداره السائق تعالى صوت المطرب رياض احمد..،كنت قد وصلت الى قصيدة "اخي حيدر" بكيت وانا احدث نفسي عن سرّ تكشفه هذه الشاعرة قبل سقوط النظام بسنوات.. فهي تعلن ان جثة اخيها الشهيد فقدت بعد الانتفاضة.. انها تعلن عن مقبرة جماعية كان فيها حيدر السنيد أميرا للغضب النبيل.. أضاعوا قبره .. ككل قبر شريف ..ولكن هل ضاع قبر عبد الكريم قاسم من كل قلب عراقي؟..
وكما لو اني اشعر بالشاعرة تذوب شغفا بأخيها اذوب شغفا بكلمات نواحها السومري.. حتى لم اعد اشعر بجسدي المهتز على موجات السيارة المسرعة في الصحراء.. كان المغني يقول آهته..وكنت اقرأ والشاعرة تذوب..:
"أتنازل عن بعضي
لأهدهد طيرا
في الروح ينوح"..
فداء لنواحكِ غزير مدامع تعجب منها السائق الغريب..
في ما بكاءك أيها الأخ؟
هل تقرأ دعاء للسفر؟..
هل فقدت عزيزا تذكرت اسمه في حرف عابر؟..
هل قرأت غزلا في حبيبة فتذكرتها؟..
لم اكن ابكي قلت له.. ولست على سفر..انا ابعث في كلّ حرف من قصائد هذه الشاعرة مثل طائر الفينيق..ولم افقد عزيزا لأني وجدت ما يلامس القلب من الشعر العراقي..وعفت نفسي عن كلّ غزل فالبار الايرلندي ووجوه النسوة الفرنسيات وحانة البحر الضبابية ما عادت تطربني ولا تشفع للغزل في نفسي.. ان لنا غزلا صوفيا دامع الوهج..
ان كل شاعر يدعو قارئه الى رحلة في عالم يخلقه من مزيج صور يتعاضد فيها الواقعي الخيالي هكذا عرفت النقد غير ان قصائد هذه المجموعة يتحّد فيها الواقعي كخيالي والخيالي يبدو بوضوح في مسيرة البحث عن تاريخ وارض مفقودة عن الواقع..هذه الأرض دخلتها قصائد الشاعرة برفقتي من اجل إعادة بناء أمل للتاريخ الصعب والمركب في مروره على ارض العراق.

لا ريب ان للقصيدة الحديثة ما يحكمها كنص،بمعنى التوجه بعناصر النص فنيا لتأهيل الشكل الكتابي الى لحظة الإبداع،ومما لا جدال عليه ان المستوى الإبداعي محمول على تلك العناصر في وظائف السياق العام، هذا السياق ابصره مكتملا ومكتنزا بعناصره في مجموعة "اغتراب الطائر". انه عالم قائم بذاته، عالم له طائره، ولهم طائرهم، يصرخ بهم بايحاء قرأني ان (طائركم معكم) لمن يتطيرون بوهم غير الشعر الحقيقي.ولكن يبقى لي هنا ان انتقد الشاعرة بما وجدته من سوداوية احيانا وتطيير بالمستقبل.. سريعا تفهمتها وعذرت حروفها، فثمة خلف كل سواد حرف في القصيدة ما يبرّر سوادوية شاعر من ارض السواد له حزنه الخاص جدا. الكتابة عن هواجس مخيفة عند الشاعرة فيها الم كبير، الم ترعبك اياه الكلمات، حتى لكأن الكتابة عن الموت، لا تقل صعوبة عن الموت نفسه..
ان بلقيس شاعرة تكتب بوجع عراقي فريد،وأنا سعيد باكتشافي لمجموعتها الشعرية تلك،وقصائد أخرى وجدتها في بعض مواقع الانترنت. وعلمت ان لها مجموعة أخرى مطبوعة وربما أخرى تنتظر الطبع..
وهل تكتفي الكلمات بالحضور حين تتحول الي لحظات ابدية تسمى الشعر؟..
وما شكل هذا الحضور عند المرأة؟.
هل يصبح الوطن بهيأة حبيب..؟..
ام هو حبيب له روح الوطن؟:

أقطف نجم الليل وأعتادك
أنسى اني وحدي
أحرث شذرات الرمل,
أسميها أملا
أسقط فوق الأوراق ضياعي...
وتجيء.......
تشمخُ قامتك أمامي
كعتيق النخل
أمنــّي نجمي
بليالي الشفق المضنى
تلمسُ أوتاري
وتمد اليد ,
تسـّوي ما ارتبك بخط العمر.

ااااااه كم مضيئة هذه الكلمات بدلالاتها،انها تخبر عن حبيب ولكنها تبحث في علائق ذائبة الى العمق بعيدا عن سطحية الإيحاء الجنسي، فثمة بعد آخر للحواس لا يدرك الا بالقلب العاشق او بالروح تحديدا كأمل لهذه الشاعرة العاشقة في الانعتاق مما ارتبك بالجسد واعاقه عن الروح العاشق/الأمل..
تنقب هذه المجموعة الشعرية وتحرث في منطقة الإشكالات الشعرية وامتيازها الشخصي ايضا،فالشاعرة تسعى منذ نصها الأول لقول شيء مختلف ومغاير، بالفكرة او الشكل، وكان احتكامها في تلكم العملية شاقا خارج اطار الشكل الشعري القديم حيث يبدو واضحا تعاملها الطيّع مع نص "عبد الله أخي" بوهج هائل للقصيدة القديمة العمودية..
وهي دخلت بل وأدخلت شكلا حواريا نادرا في القصيدة الحديثة بين نص قديم معروف وكتابة حديثة. كانت بارعة في وضع مشهدها الشعري باحكام وبنباهة لغوية وحس رفيع بالعربية دونما الولوج في عتمة الحداثة او بلاغات القديم، خلقت في هذا النص بناءها الشعري بمعرفية لا ينالها الا ذو شعر عظيم.
تنادوا فقالوا أردت الخيل ُ فارسا ً)
لهفي, وقلبك ً يطفرُ
حين يشق ّ السيف
هامة عبد الله ونبكي..

(فقلت أعبد الله ذلكم الردي ؟)

يا قيعان بحار الروح
وثورات الزنج
أثور
يثور
نثور
نقطـّع ُ بالأسنان ونستشرس
سيف يـُذبح ُ
والمذبوح أخي.

إلى أي المديات تمكنت الشاعرة من انجاز شوطها الشعري؟.
انا كما يبدو امام تجربة شعرية اولى.. ولست متوفرا على نتاجات الشاعرة كاملة حتى هذه اللحظة، غير اني أدرك تماما ان نتاجاتها لما أعقب هذا الإصدار لن تقل عذوبة، فهي مكتملة الأدوات بشكل بدا لي فيه انها كانت قادرة على إنجاز هذه المجموعة بالقافية والوزن وربما فعلت ذلك وتخلت عنه،لست قارئ غيب لكن المخاض الشائك المثير عند الشاعرة ينبأ عن جهود كثيرة وقلق تكاد تقرأه بين الاسطر. انها لا تؤسس قصائدها على غرائبيات وإحالات لغوية تخرق المعطى كما اعتادت الكتابة الجديدة على هذا، بل هي قصائد تؤسس لنفسها بوعي القارئ الباحث عن الشعر بعيدا عن التهويم والفراغ والحشو،لذا كان صوتها صافيا وغير مشوب بفنطازيات وتزويقات غالبا ما تستخدم كعكازات لوهم المعجزة الشعرية عند بعض الشعراء، ربما قرأت لها:
صمتك يلهث..
هذه الجملة اجد فيها بعدا مضيئا في الشعر خارج كل غرائبية،فصمت هو لشهيد لاهث بكلمة لم تكتمل بعد.. هذه الكلمة هي ما يحاول توثيقها الشعراء ابدا..
قصائد بلقيس حميد حسن لا تثير الانتباه ولا تدعوك لهذا، انها قصائد تدعوك لتعيش لحظتها المتوهجة دونما هاجس بالفورة الآنية العابرة التي يذهب زبدها جفاء:

"حين يكتمل ُ البدر ُ
يعزف مقطوعتين
واحدة للعشاق
أخرى للموتى"

كم جميل قول الشاعرة الشفيف هذا ،حقا حين يكتمل القمر بدرا فهو موت آخر سيعبر إليه في الغد، سيمضي الى جهة النقصان..
يا لها من التماعة تطلّ على بدر الشعر العراقي السياب في خوف الطفل من القمر المكتمل.. ربما ستضيف الشاعرة بل وتصحح له ان هذا الخوف هاجس محب يخاف على حبيبه لا هاجس خائف من غيب ما..
رغم هذا أيضا للشاعرة في مجموعتها هاجس عتب مع رب أمعن في ضحاياه:
"(مردوخ) كفَّ عن العراق
زادت عطايانا إليك
فما تريد؟
جفت شواطئنا
فلا نبع يفيض ولا غلال
وطقوسنا اندثرت سوى طقس البكاء
باق ٍ على مدّ الدهور.
مردوخ كفَّ عن العراق"
في كل نص شعري يتمحور هاجس ما ويتضخم في عنصر معين ليكون رافعا أو حاملا لمعنى يسير عبر النص ويمكن أتباعه كمجرى نهر شفيف،العنصر هذا لا أجده عند الشاعرة معلنا بسهولة، اذا أنت تشعر به لكنك لا تدركه.. ولا تضع يدك مجراه ، انه يحضر ويغيب ولا يعلنه عنصر في النص..
وان كانت الغاية الأسمى للصوفي كما يقول ماسينيون في انفتاحه على المطلق..فأني أرى في طائر الفينيق الذي بُعث من هذه الأوراق مغتربا قد انفتح على مجاهيل اغترابنا جميعا، كأجمل هدف وغاية يقول عنها الشعراء.. وقد قالت وأجادت الشاعرة في هذا..
وتلك وقفة عاجلة لي أمام مجموعة تستحق ما قاله باشلار بل أضيف عليه قولا آخر ذكرياتنا ساكنة وكلما كان إرتباطها بالمكان أكثر تأكيداً أصبحت أوضح..أقول هذا لأن وضوحا جميلا وجدته في قصائد هذه المجموعة ربطني وشدّني الى جناح الطائر في كل حرف،في الوقت الذي أشعرني بارتباط وثيق بالمكان.
في كتابة لاحقة سأمرّ على ما وجدته بداية أولية في هذه المقال،لتسجيل المزيد من الملاحظات والاستزادة من معين الشعر الجميل، من اجل متابعة رحلة هذا الطائر الذي كلما ازداد اغترابا كلما بعث من رماده في كل قصيدة.

العراق
2005